اختلاف الآراء في التطبير
كثير من المسائل الفقهية المهمة التي اختلفت فيها آراء أساطين العلماء قديماً وحديثاً، وكثر فيها الأخذ والرد، والنقض والإبرام، وربما ألفت فيها رسائل وكتب، إلا أن أكثر تلك المسائل لا يكون في طرحها بين العلماء ولا عند العوام أي حذر أو محذور، وقد لا يتردد الفقيه في طرح رأيه المخالف لما هو المشهور عند علماء الإمامية، مع أن بعض تلكم المسائل ربما يرتبط بأمور مهمة، تمس الدماء، والفروج، والأعراض، والأموال.
إلا أن بعض المسائل الفقهية أخذت أبعاداً أخرى، فصار من يطرح رأيه فيها عرضة للطعن والنقد، أو عرضة لما هو أكثر من ذلك.
ولعل من الأمثلة الواضحة على هذا النوع من المسائل مسألة (التطبير)، فإنها أخذت بعداً كبيراً، فاعتبرها بعضهم مسألة فقهية، حالها حال غيرها من المسائل الفقهية التي يجوز للفقيه أن يبدي فيها رأيه، وإن خالف فيها أساطين الطائفة وجهابذتها، بينما رأى البعض الآخر أن التطبير من شعائر الله، أو من شعائر المذهب، أو من الشعائر الحسينية التي لا يحق لأي أحد أن يجتهد فيها بأي حال من الأحوال.
وسواء أكان التطبير من شعائر المذهب، أو من الشعائر الحسينية، أو من شعائر الله كما يذهب إليه بعض العلماء، أم أنه لم تثبت شعاريته ولا استحبابه كما يذهب إليه السيد الخوئي والميرزا جواد التبريزي قدس سرهما (صراط النجاة 2/464)، وسواء أكان التطبير فعلاً جائزاً إذا لم يكن فيه ضرر معتد به كما أفتى بذلك بعض الأعلام، أم أنه مستحب كما أفتى به بعض آخر، فإن كل ذلك لا يخرج التطبير عن كونه مسألة فقهية يجوز الاجتهاد فيها والخروج فيه برأي مغاير لهذه الآراء؛ لأن استحباب التطبير أو شعاريته لم يجمع عليهما علماء الطائفة وأساطين المذهب، فحينئذ يكون للاجتهاد فيه مجال، وعلى كل مكلف أن يرجع إلى فتوى مرجعه في هذه المسألة، من دون حاجة لإلزام الآخرين برأي مجتهد واحد، وجعل مسألة التطبير مثاراً للتراشق والنزاع بين أبناء المذهب الواحد.
وبما أن جمعاً من أعلام الطائفة لم يفتوا باستحباب التطبير بنحو الإطلاق، وإنما أفتوا بأنه فعل جائز إذا لم يكن فيه ضرر معتد به لا يقدم عليه العقلاء، ولم يستلزم توهين المذهب في نظر العرف السائد (صراط النجاة 2/465)، فإن تشخيص ذلك بيد المكلف، فلا محذور على من يرى بحسب وضعه وتشخيصه أن القيام بهذا العمل لا مصلحة فيه في بلده، أو أنه يستلزم توهين المذهب وهتكه في هذا العصر، ولأجل ذلك رفض التطبير وامتنع عنه، فإنه سواء أخطأ أم أصاب فإنه من غير شك لا يهدف بذلك إلى محاربة شعيرة ثابتة من الشعائر الحسينية، ولو علم أن التطبير من شعائر الله أو من الشعائر الحسينية لحرص على فعله وحث عليه.
وكذا من رأى أن التطبير شعيرة عظيمة تستوجب إعلاء شأن الدين وتقوية المذهب، وأنه نوع محبوب وممدوح من إظهار الجزع على سيد الشهداء عليه السلام، ولأجل ذلك حث عليه، وحرص على إحيائه في مناسباته، فإنه سواء أخطأ أم أصاب فإنه بلا إشكال لا يرى أن هذا عمل قبيح، وأنه يستوجب توهين المذهب أو هتكه ومع ذلك يفعله ويحرص على إقامته.
ومن الواضح أن دوافع هؤلاء المختلفين في التطبير، سواء أكانوا من الذين يحثون عليه ويمارسونه، أم من الذين يمنعونه ويرفضونه، دوافعهم كلها دينية بحتة، ولا أظن أي طرف يتهم الطرف الآخر بالسعي لتحقيق مكاسب دنيوية خاصة من إحياء التطبير أو المنع منه، كما أستبعد أن يتهم أحد الطرفين الطرف الآخر بأنه يريد الإساءة إلى المذهب، وتشويه صورته عند الخصوم، أو محاربة شعيرة من الشعائر الحسينية، والكل متفق على أن من حثَّ على التطبير أو مارسه إنما أراد أن يحيي شعيرة من الشعائر الحسينية بنظره، ومن منعه فإنه أراد أن يصون المذهب عن كل هتك، ويمنع عنه كل همز ولمز بحسب نظره.
وخلاصة ما أريد أن أقوله هو أن التطبير مسألة فقهية اختلفت فيها أنظار علماء الطائفة، ولا محذور في طرحها على مائدة البحث والنقاش كغيرها من المسائل الفقهية، وعلى الفقيه أن يدلي فيها برأيه من غير حذر ولا تقية من أحد، وعلى كل مقلد أن يرجع فيها إلى رأي مرجعه، وعلى كل طرف أن يتقبل رأياً آخر في هذه المسألة مخالفاً لرأيه، من دون حاجة إلى المزايدات والتصعيد والشحن الجماهيري في هذه المسألة أو في غيرها من المسائل الفقهية الأخرى، ولا معنى لإثارة النزاعات في مسألة فقهية اختلفت فيها فتاوى العلماء، وتفاوتت فيها الأنظار في زمان يحتاج فيه الشيعة إلى الاتفاق على الأمور التي تجعلهم يبرزون فكر أئمة أهل البيت عليهم السلام ومحاسن كلامهم بالصورة التي تلائم هذا العصر، وتناسب أهله.