مسؤولية العلماء
عندما يدخل الواحد منا في أوساط المجتمع، ويسبر أحوال الناس، ويتعرف على أمورهم وتوجهاتهم، يرى أنهم يختلفون اختلافاً كبيراً في تقييم علماء الدين وطلبة العلوم الدينية ما بين إفراط وتفريط.
ولعل منشأ هذا الاختلاف هو تفاوت المنتمين إلى هذا الصنف، فكما أن منهم العلماء الربانيين العاملين المخلصين المتقين الورعين، الذين هم بحق كفلاء أيتام آل محمد في هذا الزمان، فكذلك منهم من تزيى بزي العلماء وهو لا يعرف من العلم شيئاً، إلا اصطلاحات يتشدق بها، ومنهم من يتظاهر بأنه تقي وهو بعيد عن التقوى، وصار هؤلاء وأولئك سواء في نظر كثير من الناس، الذين حكموا على جميع العلماء بحكم واحد من خلال أفراد قد لا ينتمون إليهم في الحقيقة.
ففي الوقت الذي يرى بعضهم أن العلماء لا يخدمون الناس في شيء، وأنهم عالة على المجتمع، وأنه لا ينبغي إطلاق لفظ العلماء عليهم؛ لأنهم لا يملكون من العلم شيئاً، ولا يفهمون متطلبات العصر، وهم رجال يعيشون بعقول آسنة متحجرة لا يمكن تطويرها، ويعتقدون بآراء بالية قد أكل الدهر عليها وشرب، وكل ما يقومون به هو طقوس بسيطة في المساجد، ويحفظون مسائل معدودة هي كل زادهم من العلم، وأما غير ذلك فلا دور لهم في المجتمع، ولا نفع لهم فيه.
وفي قبال هؤلاء نجد شريحة كبيرة من الناس يعتقدون أن العلماء وطلبة العلم متخصصون في علوم كثيرة، ولذلك يسألهم الناس المسائل الدينية وغيرها، ولا يترددون في سؤالهم حتى عن السحر، والجن، وتفسير الأحلام، والأحجار الكريمة، وغيرها، وربما يتعجب بعض هؤلاء إذا سأل العالم عن مسألة فأجاب بقوله: لا أعلم.
وهذه الشريحة تتوقع من العلماء أن يتحملوا كل أعباء المجتمع ومسؤولياته، فيجب عليهم مضافاً إلى مسؤولياتهم الدينية أن يعينوا الفقراء والمساكين، ويعيلوا الأسر الفقيرة والمحتاجة، وأن يسعوا في تزويج العزاب والعازبات، ويساهموا ولو بجزء من نفقات زواجهم، وأن يقرضوا المحتاجين، ويطالبوا الدولة بكل ما يحتاجه المجتمع في جميع النواحي، حتى سفلتة الشوارع وإنارتها، فضلاً عن بناء المستشفيات والمدارس وغيرها من الأمور المهمة.
كما أنهم يحملونهم مسؤولية كل ما يقع في المجتمع من مساوئ، أو فقر، أو جرائم مالية أو خلقية، أو مشاكل أسرية، أو غير ذلك، ويرون أنه من الواجب عليهم دون غيرهم أن يحاربوا كل المنكرات والمفاسد، وأن يضربوا على أيدي اللصوص والمحتالين، وأن يسعوا جاهدين لحل كل المشاكل الاجتماعية بجميع أنواعها.
ومن السهولة بمكان عند بعض هؤلاء عندما تطرح أي مشكلة اجتماعية، ككثرة الطلاق في المجتمع، أو تفشي السرقة، أو شيوع البطالة، أو غير ذلك، أن يحمَّل هؤلاء الناس كل علماء المنطقة مسؤولية ذلك، بدعوى أنهم مقصرون في أداء وظيفتهم في توعية المجتمع من هذه النواحي.
وأذكر أنه كتب إلي أحد الغيورين عبر موقعي في الانترنت عن بعض الظواهر السيئة التي يعتقد أنها متفشية بين المراهقين، واقترح أن يكثف العلماء والخطباء جهودهم في توعية الناس حول هذه الأمور، فأجبته بأن الذين يحضرون تحت منبر العالم أو الخطيب ويستمعون إليه لا يحتاجون إلى أي توعية في هذا الجانب، وأما الفئة المستهدفة، وهم الشبان المراهقون السيئون فهم لا يحضرون المساجد ولا الحسينيات، ولا يلتفتون إلى كلام العلماء والخطباء، فكيف يمكن علاج هذه الظواهر بالنحو المقترح؟
وقلت له: إن علاج هذه الظاهرة تبدأ من المنزل، بإبعاد الشاب عن بؤر الفساد، ومراقبته، وتوجيهه من قبل والديه لاختيار الأصحاب الصلحاء، وتجنيبه رفقاء السوء، وحثه على ارتياد المساجد والحسينيات ومجالس العلماء، وهذا الدور لا يستطيع العلماء أن يقوموا به في مجتمع صغير، فكيف يتمكنون من الاضطلاع به إذا اتسع المجتمع، وتعددت توجهاته وميوله؟
بعد هذا البيان أقول: إن وظيفة العلماء تتخلص في أمرين:
1- بيان العقائد الحقة، وما يستتبع ذلك من رد شبهات المخالفين، ودفع تشكيكات المشككين، والدفاع عن ثوابت المذهب الحق، وتحصين ضعفة المؤمنين من كل غزو فكري.
2- تعليم الناس الأحكام الشرعية والوظائف الدينية، وبيان ما افترضه الله عليهم والحث عليه، وترغيبهم فيه، والتنبيه على ما حرمه الله عليهم والتحذير منه.
وإلى ذلك وردت الإشارة في كتاب الله العزيز، بقوله سبحانه: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (التوبة: 122)، فإن الآية المباركة قد أوضحت أن وظيفة العلماء إذا تفقهوا في دينهم هي إنذار أقوامهم، وإنذار الناس هو تحذيرهم عن الوقوع في الضرر الدنيوي والعذاب الأخروي، بتعليمهم العقائد الحقة، ليصح إيمانهم، وتفهيمهم أحكام الدين، ليقوموا بوظائفهم الشرعية المطلوبة منهم، وهذا هو المحقق لنجاتهم.
وأما ما عدا ذلك فليس من وظائف العلماء بخصوصهم، حتى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنهما وظيفتان واجبتان على كل من تمكن منهما، سواء أكان عالماً أم غير عالم.
وكذا كل ما ذكرناه فيما تقدم من الأمور الاجتماعية فهو غير مخصوص بالعلماء، وهو وظيفة القادر عليه، فربما يكون العالم غير قادر على محاربة الفساد، ويكون غير العالم قادراً عليه، وربما لا يستجيب المسؤول للعالم لو طالبه بأمر عام، ولكنه يستجيب لشخص آخر غير عالم، فيجب حينئذ على غير العالم بالخصوص. وهكذا جميع المسائل الأخرى التي أشرنا إليها.
ويمكن تقريب ما قلناه إلى الأذهان بالتمثيل بالطبيب الذي يعلم الجميع أن وظيفته هي علاج المرضى، وأما مسؤوليات المجتمع وهمومه فلا ينبغي أن يتحملها كلها الطبيب وحده، لأنه واحد من أفراد هذا المجتمع يقوم بالدور الذي يتمكن من القيام به، فالطبيب والمهندس وعالم الدين ونحوهم وإن كانت لهم وظائف خاصة يلزمهم القيام بها، إلا أنهم في العمل الاجتماعي وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سواء، فمن كان قادراً منهم على خدمة المجتمع في غير مجال تخصصه فلا ينبغي له أن يتخلى عن مسؤولياته الأخرى ويحملها الآخرين.