التقية مبدأ إسلامي ... لكنه صار وسيلة للتشنيع على الشيعة
نشر هذا المقال في ملحق الرسالة لجريدة المدينة السعودية
تعقيباً على ما كتبه الأخ عبد الكريم الحطاب في ملحق (الرسالة) بتاريخ 1/9/1425هـ حول التقية عند الشيعة، فإني أود أن ألفت النظر إلى عدة أمور:
1- أن كثيراً من أهل السنة يقدحون في التقية مطلقاً، ويعتبرونها من عقائد الشيعة الممقوتة، من دون التفريق بين مفهوم التقية المضيق الذي يعتقد به أهل السنة، ومفهومها الموسع الذي يذهب إليه الشيعة، وكثير من أهل السنة لا يميزون بين هذين المفهومين للتقية، وإنما يعرف ذلك المتخصصون منهم الذين لا يكادون يعترفون بأن التقية جائزة في الدين إلا عندما يلجؤون إلى ذلك.
وهذا تماماً مثل اتهام الشيعة بسب الصحابة، مع أن الشيعة يرون عدالة جملة وافرة من الصحابة، وقائل هذه المقولة قد جعل القول بعدم عدالة بعضهم سباً لعامة الصحابة، وهذا قدح مبالغ فيه كما لا يخفى.
2- أن الأخ الحطاب قد كتب مقاله بركائزه السنية، وبالفتاوى المتعلقة بالتقية التي تلقاها عن علماء السنة، وجعلها مسلمات ومقياساً للصحيح والخطأ، وهذا منهج خاطئ، فإن الشيعة لهم أصولهم ومصادرهم الحديثية التي يرجعون إليها، فكان الأجدر بالأخ الكريم أن يحاور الشيعة محتجاً بآيات الكتاب العزيز التي هي محل اتفاق بين الطائفتين، أو بناءً على أصولهم هم لا أصول أهل السنة.
3- أن التقية مسألة فقهية، وهي كغيرها من المسائل الكثيرة التي اختلف فيها الشيعة وأهل السنة، ولا ينبغي أن تثار حولها الزوابع، ويكثر بسببها التشنيع على هذه الطائفة أو تلك، ولا سيما أنها تصب في مصلحة عامة المسلمين، وذلك لأن الشيعة لو تركوا التقية لكانت الحرب سجالاً بينهم وأهل السنة، ومستمرة من العصور الأولى إلى يومنا هذا، وهذا أمر يضعضع وحدة المسلمين ويستنفد طاقاتهم وأموالهم.
ثم إن كلام الأخ عبد الكريم الحطاب قد اشتمل على عدة ملاحظات ينبغي لفت الأنظار إليها، منها:
1- قوله: إن التقية إذا لم يلجأ إليها المكلف في حالة الاضطرار ومات فإن له درجة وثوابا عند الله فكأن رخصة أكل لحم الخنزير تنتقل إلى العزيمة لكن لا تنتقل رخصة التقية إلى العزيمة بل أن من مات لدين الله ولم يحتم التقية فإنه سيؤجر على موته هذا أجرا عظيما والعزيمة على كل حال أفضل من التقية.
وجوابه: أنه لا يصح أن يقال: إن تارك التقية مأجور مطلقا، وأن العمل بها رخصة مطلقاً، لأن التقية قد تكون في بعض الموارد واجبة، وفي بعض الموارد محرمة.
أما وجوبها ففيما إذا علم أن ترك بالتقية يوقعه في القتل مع رجال من المسلمين بلا فائدة، فإن العمل بالتقية حينئد يكون واجباً عليه لحفظ نفسه وحفظ غيره، وإلا كان مخالفا للنهي الوارد في قوله تعالى (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (البقرة: 195)، وكان مشمولاً للوعيد والغضب واللعن في قوله تعالى (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً) (النساء:93)، لأن حرمة القتل تشمل ما كان بالمباشرة وبالتسبيب، وتارك التقية قد يتسبب في بعض الموارد في قتل المسلمين الأبرياء بلا فائدة.
وأما حرمة العمل بالتقية ففيما إذا أكره شخص على قتل مسلم بريء، فإنه لا يجوز له العمل بالتقية طلباً لنجاة نفسه بقتل المسلم البريء، لأن التقية إنما شرعت لحقن الدماء، فإذا وصلت إلى الدم فلا تقية.
وكما إذا توقف نشر الدين وبقائه على ترك التقية، وعلى هذا يحمل عدم عمل الأنبياء عليهم السلام وأئمة الدين بالتقية، لأن تركهم للتقية يستلزم عدم تبليغ الرسالة التي قد أمر النبي بتبليغها، كما يستلزم اندراس الدين واضمحلاله إذا ترك أئمة الدين إيضاح الحق ورد الباطل في حال وقوع الفتن التي لا يميز فيها بين الحق والباطل.
فما قاله الأخ عبد الكريم الحطاب من أن التقية رخصة مطلقاً، وأن تركها في كل حال أفضل من العمل بها، غير صحيح كما أوضحناه.
ومما ذكرناه يتضح أيضا فساد قوله: فما عاناه الحبيب صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين وما تحمله الصحابة رضي الله عنهم من أذى في سبيل الله لم يجعلهم يتعذرون بالتقية وهذا دليل على أن العزيمة هي الأصل والأفضل والأحسن.
وذلك لأن ما عاناه نبينا المصطفى صلى الله عليه وآله من أذى المشركين إنما كان في سبيل تبليغ الرسالة ونشر الدعوة، وكذلك ما تحمله الصحابة الأجلاء رضي الله عنهم وأئمة الدين في سبيل نشر الدعوة، ونحن قلنا: إن نشر الرسالة يقتضي ترك العمل بالتقية، فنرجو التنبه إلى ذلك ، لئلا يحصل الخلط بين الأمرين.
2- قال الأخ الحطاب: أما لدى إخواننا الشيعة فلا وجود للعزيمة أبدا والأمر يختلف تماما عن ما ذكره الشيخ الصفار في تعريفه لها فهم حولوا التقية من رخصة إلى عقيدة واجبة لا يجوز تركها إلى يوم القيامة وأن تاركها بمنزلة تارك الصلاة وأنها تسعة أعشار الدين ومن ضروريات مذهب التشيع ولا يتم الإيمان إلا بها وليست رخصة في حال الإكراه كما ذكر الشيخ الصفار وإنما تكون وتقع من الشيعي لكل من خالفه بالمذهب).
وجوابه: أنا أوضحنا حكم التقية عند الشيعة، وأنها قد تكون واجبة وقد تكون محرمة، وقد تكون غير ذلك.
فقوله: (إنهم حولوا التقية من رخصة إلى عقيدة واجبة لا يجوز تركها إلى يوم القيامة) غير صحيح، لأنها ليست رخصة مطلقاً، وفي كل مورد، بل قد تكون رخصة يجوز تركها، وقد تكون عزيمة واجبة لا يجوز تركها كما مثلنا.
ولعل الأمر قد التبس على الأخ الحطاب بسبب ورود التعبير في كلمات علماء الشيعة بوجوب التقية الذي يراد به الوجوب في بعض الموارد، وهو لم يتمعن جيداً في كلماتهم ليدرك أن وجوب التقية إنما هو في بعض الموارد لا في كل الموارد، وإطلاق الوجوب بهذا المعنى له نظائر كثيرة في كلمات الفقهاء، نظير قولهم بوجوب الصلاة ووجوب الحج ووجوب الزكاة وغير ذلك، فإن الصلاة وإن كانت واجبة إلا أنها لا تجب مطلقاً، فإن الواجب منها صلوات مخصوصة، لا كل صلاة، والواجب من الصلوات إنما يجب في وقته، ولا يجب في كل وقت، ويجب بشرائط خاصة لا مطلقاً، بل قد تحرم الصلاة إذا كانت مبتدعة، كمن أرد أن يصلي الفجر أربع ركعات، أو يصلي صلاة الظهر قبل الزوال، وكذلك الصوم، فإنه وإن وجب في شهر رمضان إلا أنه لا يجب مطلقاً، بل قد يكون محرماً في بعض الموارد، كمن صام في العيدين أو صام صوم الوصال وهو أن يصل اليوم بتاليه من غير إفطار... وهكذا.
إذن، فالتقية واجبة في بعض الموارد، وهي موارد خوف الضرر الخاص أو العام، لا في كل مورد.
ثم إن الأخ الحطاب قد استشنع القول بأن وجوب التقية كوجوب الصلاة، مع وضوح أن التقية إذا كانت واجبة فلا يجوز تركها أو التهاون بها كالصلاة وغيرها من الواجبات، وحكمها حينئذ باق إلى يوم القيامة، لأن حلال محمد حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة، فتاركها في حال وجوبها فاسق كحال من ترك الصلاة والصيام.
وأما أنها تسعة أعشار الدين وأنه لا دين لمن لا تقية له، فالمراد كما قال المولى محمد صالح المازندراني هو أنها تسعة أعشار الدين لقلة الحق وأهله، وكثرة الباطل وأهله، حتى إن الحق عشر والباطل تسعة أعشار، ولا بد لأهل الحق من المماشاة مع أهل الباطل فيها حال ظهور دولتهم ليسلموا من بطشهم، ولعل المراد بقوله: (ولا دين لمن لا تقية له) نفي الكمال، لدلالة بعض الروايات على أن المؤاخذ بترك التقية لا يخرج من الإيمان، وأن ثوابه أنقص من ثواب العامل بها ، ووجوب التقية والإثم بتركها لا ينافي أصل الإيمان وإنما ينافي كماله. (شرح أصول الكافي 9/118).
أو أن التقية إنما صارت تسعة أعشار الدين لأنها تجري في أغلب أحكام الدين، والله العالم.
وأما أنها من ضروريات مذهب الشيعة وأن الإيمان لا يتم إلا بها، فلأن كل ما هو ثابت عندنا عن أئمة أهل البيت عليهم السلام بالضرورة وبالتواتر فإنكاره تكذيب لأئمة أهل البيت عليهم السلام، وهذا يخرج صاحبه عن المذهب، كمن أنكر ضروريا من ضروريات الدين كوجوب الصلاة والصيام فإنه يخرج صاحبه عن الإسلام، لاستلزام إنكار ضروري الدين تكذيب نبينا محمد صلى الله عليه وآله. والمراد بالإيمان هو التدين بمذهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية.
3- وأما قوله: (وإنما تكون وتقع من الشيعي لكل من خالفه بالمذهب)، فغير دقيق، لأن التقية إنما تكون في حال الخوف من الضرر الشخصي أو الضرر النوعي، فلا تكاد تجد شيعياً يتقي في المشتركات بين الشيعة وبين غيرهم، أو فيما يسع الشيعي أن يظهر المخالفة فيه من غير غضاضة .
وأما في الموارد التي كثر التشنيع فيها على الشيعة أو التي يُعرف بها الشيعي أنه شيعي، فلا يأمن بذلك أن يتوجه إليه الضرر، وكذا الموارد التي يكفَّر بها الشيعي أو يستباح بها دمه، فإنه في سعة في العمل بالتقية.
ولقد رأينا فئات كثيرة من أهل السنة لا يرون لهم قضية إلا محاربة الشيعة، ولا يتحدثون في موضوع إلا ويطعنون في الشيعة، بل إنهم يرون أن الشيعة شر من مشى على الأرض، ويرون كفرهم، واستباحة دمائهم، بل إن إراقة دماء الشيعة أحل عندهم من إراقة المدام...
فهل يلام الشيعي حينئذ أن يعمل بالتقية مع هؤلاء الذين أقل ما يصنعونه مع الشيعة هو محاربتهم في أرزاقهم ، والاستخفاف بهم، وعدم رد السلام عليهم ، والوقيعة فيهم وغير ذلك مما هو معروف ومشهور مما لا ينكره إلا مكابر أو جاهل؟
4- ثم إن الأخ الحطاب نقل بعض كلمات أعلام الشيعة التي يصرحون فيها بوجوب التقية وبأنها باقية إلى يوم القيامة ونحن قد أوضحنا مرادهم فيما تقدم، فلا حاجة للإعادة. ومما يلفت النظر أن الأخ الحطاب نقل كلمة للسيد الخميني (قده)، فقال: (ويقول الخميني: وترك التقية من الموبقات التي تلقي صاحبها قعر جهنم وهي توازي جحد النبوة والكفر بالله العظيم (المكاسب المحرمة، 2/162).
ومن المؤسف حقاً أن يعمد الأخ الكريم لتحريف هذه الكلمة فيذكرها مشوهة، ونحن نحمله على الصحة فنقول: (لعله نقلها ممن حرفها)، إلا أنه كان ينبغي عليه حينئذ أن ينقلها من مصدرها مراعاة للأمانة العلمية، وإليك ما قاله السيد الخميني (قده):
قال (قده): فإن الظاهر أن جعل ترك التقية من الموبقات وقريناً لجحد النبوة والإمامة ليس لمحض حفظ مال مؤمن أو عرضه مثلاً، بل لما كان تركها في تلك الأزمنة موجباً لفساد في الدين أو المذهب صار بتلك المنزلة. (كتاب البيع 2/163).
ومراده (قده) بجعل التقية قرينة لجحد النبوة والإمامة هو أن التقية لأهميتها قُرنت في الذِّكر بجحد النبوة والإمامة في الحديث المروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: (من صلى الخمس كفَّر الله عنه من الذنوب)... إلى أن قال : (لا تبقى عليه من الذنوب شيئا إلا الموبقات التي هي جحد النبوة أو الإمامة أو ظلم إخوانه أو ترك التقية حتى يضر بنفسه وإخوانه المؤمنين).
والكاتب هداه الله أو من حرف هذه الكلمة قد أبدل كلمة (قرينا) بـ (توازي)، وأضاف من عنده قوله: (التي تلقي صاحبها في قعر جهنم)، وجعل ترك التقية موازيا للكفر بالله العظيم.
فعلى القارئ الكريم أن يقارن بين ما قاله السيد الخميني (قده) وبين ما نسبه الأخ الحطاب إليه، والحكم في ذلك أتركه للقارئ نفسه.
وأما الرواية التي ذكرها الأخ الحطاب، وهي قوله: (تارك التقية كافر)، فهي رواية ضعيفة بسبب الإرسال، فلا يصح الاحتجاج بها على الشيعة، ولو سلمنا بصحتها فالمراد بها أن تارك التقية جاحدا لها ومنكرا لمشروعيتها كافر ، لأنها منصوص عليها في القرآن الكريم، في قوله تعالى (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) (آل عمران:28)، وقوله تعالى (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ) (النحل: من الآية106)، فمنكرها مكذب للقرآن الكريم، فيكون كافراً.
وأما قول الأخ الحطاب: وعنه أيضا قال: إنكم علي دين من كتمه أعزة الله ومن أذاعه أذله الله (الكافي، 2/222)؟؟؟؟؟ أقول أين قول الله عز وجل (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) .
فجوابه: أن المراد بالحديث هو أن من أظهر الحق في دولة الأمويين والعباسيين ذل، لأنهم سيؤاخذونه وسينكلون به، ومن كتمه أعزه الله، لأنهم سيلهون عنه، وذلك لأن الأمويين والعباسيين تعقبوا أئمة أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم وضيقوا عليهم الخناق، فاقتضت هذه الحال الشديدة أن يعملوا بالتقية.
وأما الآية المباركة فهي ورادة في مقام ذم الذين يكتمون الحق ليخفوه على الناس من أجل الدنيا، لا كتمانه تقية وخوفاً، وبين الأمرين فرق واضح.
قال ابن كثير : يقول تعالى ( إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب) يعني اليهود الذين كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتبهم التي بأيديهم مما تشهد له بالرسالة والنبوة، فكتموا ذلك لئلا تذهب رياستهم وما كانوا يأخذونه من العرب من الهدايا والتحف على تعظيمهم آباءهم، فخشوا لعنهم الله إن أظهروا ذلك أن يتبعه الناس ويتركوهم، فكتموا ذلك إبقاء على ما كان يحصل لهم من ذلك وهو نزر يسير، فباعوا أنفسهم بذلك، واعتاضوا عن الهدى واتباع الحق وتصديق الرسول والإيمان بما جاء عن الله بذلك النزر اليسير، فخابوا وخسروا في الدنيا والآخرة. (تفسير القرآن العظيم 1/207).
5- وقال الأخ الحطاب: فكما أوردنا من كتبهم فإن التقية لدى إخواننا الشيعة لا يرون أنها مشروعة في حال الضرورة فقط لذلك تراهم قد وضعوا روايات تحث عليها من دون توفر أسباب كالخوف أو الإكراه حتى تكون بذلك مسلكا فطريا عند الشيعة في حياتهم تصاحبهم حيث ذهبوا, فرووا مثلا عن الصادق أنه قال: عليكم بالتقية فأنه ليس منا من لم يجعله شعاره ودثاره مع من يأمنه لتكون سجيته مع من يحذره (أمالي الطوسي، 299).
وجوابه: أن التقية إنما شرعت في حال الخوف وعدم أمن الضرر، ولا يخفى على القارئ العزيز أن روايات التقية كلها قد صدرت من أئمة أهل البيت عليهم السلام في زمان الدولتين الأموية والعباسية، اللتين لاقى الشيعة في فترتيهما الكثير من القتل والتضييق والتشريد والملاحقات والاضطهاد وغيرها، وكان ذلك كله بمرأى وبمسمع من أئمة أهل البيت عليهم السلام الذين عانوا من خلفاء هاتين الدولتين ما عانوا، فلهذا حثوا شيعتهم على العمل بالتقية الشديدة التي يقتضيها الحال في ذلك الوقت، حتى إن الرجل من الشيعة كان يتقمص شخصية بائع الدهن أو الخيار ليأتي للإمام عليه السلام ليسأله عن دينه.
وهذا هو السبب في كثرة الروايات التي تحث على العمل بالتقية بهذه الصورة الشديدة، في ذلك الوضع السيئ الذي لم يكن الشيعي يجرؤ فيه على أن يجهر بشيء من معتقداته أو يتجاهر بأنه من موالي أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم، لأن ذلك يكلفه حياته.
ولما وجد الشيعة في العصور المتأخرة متنفساً جهروا بمعتقداتهم، ونشروا كتبهم، كما نرى ذلك اليوم في كثير من البلاد بحمد الله ونعمته.
وأما الروايات التي نصت على أن التقية باقية إلى قيام القائم فهي كاشفة عن الحالة التي سيعانيها الشيعة إلى قيام القائم عليه السلام، ومبيِّنة أنهم لن يستطيعوا ممارسة شعائرهم بكامل الحرية إلا بعد ظهور الإمام المهدي عليه السلام، وهذا ما نلمسه اليوم وقبل اليوم بوضوح، فإن الشيعة لم يعطوا حقوقهم ، بل صودرت حرياتهم في أكثر البلاد الإسلامية، فلا يستطيع الشيعي أن يظهر عقيدته في شيء من وسائل الإعلام المقروءة أو المرئية أو المسموعة، فكيف لا تكون التقية باقية؟
6- قال الأخ الحطاب: ويذكر الخميني في معرض كلامه عن أقسام التقية أن منها التقية المداراتية وعرفها بقوله: وهو تحبيب المخالفين وجر مودتهم من غير خوف ضرر كما في التقية خوفا الرسائل، 2/174 ( حول أقسام التقية) ولاحظ قوله من غير خوف ضرر فهذا يؤكد خلاصة عقيدة التقية عند القوم من أنها لا تعلق لها بالضرر أو الخوف الذي من أجله شرعت التقية.
والجواب: أني أتعجب كثيراً من إنكار الحطاب وغيره تحبب الشيعة إلى أهل السنة، فهل يعتبر الحطاب هذا منكراً؟ وهل يرى المعروف هو إشعال الحرب سجالا بين الشيعة وأهل السنة؟
لقد أمر أئمة أهل البيت عليهم السلام شيعتهم بحسن معاشرة أهل السنة والتودد إليهم، وحفظ حقوقهم، وأداء أماناتهم، والشهادة لهم وعليهم بالحق... وغير ذلك مما هو واجب على كل مسلم تجاه أخيه المسلم.
وقد سمى بعض العلماء أمثال هذه الوصايا بالتقية المداراتية، لما فيها من مداراة أهل السنة والتودد إليهم، ولا مشاحة في الاصطلاحات ما دام التودد والتحبب إلى سائر الناس ـ أهل السنة وغيرهم ـ أمر حسن في الشريعة الإسلامية، وهذه المداراة تختلف عن التقية التي نبحث عنها، وهي إخفاء المعتقد خوفا على النفس أو المال أو العرض، وإن جمعهما بعض العلماء تحت عنوان : التقية.
7- وقول الأخ الحطاب: أن التوسع في أحكام الله وشرعه لا يجعل الفرع (رخصة التقية) أصلا لا يقوم الدين ولا يقعد إلا به وتاركه لا دين له ولا صلاة كما أوردنا من كتبهم.
جوابه: أن المراد بالتوسع في التقية هو التوسع في ممارستها والعمل بها، لا التوسع في مفهومها ولا في جعلها أصلا من أصول الدين، ولا في تكفير تاركها كما زعمه الأخ الحطاب.
8- وأما قوله: أن دعوى وقوع الظلم والبلاء على الشيعة جعلهم يتوسعون في باب التقية مردود عليه لأن هنالك من علماء أهل السنة من تعرض لتنكيل والتعذيب بل السجن ولم تعرف التقية سبيل لهم بل صبروا واحتسبوا وهذا هو الأصل.
فجوابه: أن تعرض الإنسان للتنكيل والتعذيب والسجن مسوغ للعمل بالتقية، ولا يجب عليه ترك التقية في هذه الحالة كما مر في كلام الأخ الحطاب نفسه، فلا يلام الشيعة حينئذ لو عملوا بالتقية خوفا من التنكيل والتشريد والاضطهاد، كما صنع الصحابي الجليل عمار بن ياسر رضي الله عنه لما وقع في التنكيل والتعذيب، فقال كلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان، وترك بعض علماء أهل السنة العمل بالتقية حينما وقعوا في محن مشابهة لا يرفع الرخصة في العمل بالتقية عن هذه الأمة.
على أنا لو نظرنا إلى واقع المسلمين في هذا العصر وما قبله من العصور لرأينا أن أكثر المسلمين سنة وشيعة كانوا وما زالوا يمارسون التقية في كل شؤون حياتهم، وهو أمر واضح لا يحتاج إلى بيان.
9- ثم إن الأخ الحطاب ذكر نماذج مما عاناه بعض علماء أهل السنة الذين لم يتعذروا بالتقية لمعرفتهم بمعناها... ومن ضمن تلك النماذج التي ذكرها أبو حنيفة ومالك بن أنس وأحمد بن حنبل ثم قال: وسرد قصص البلاء والمحن التي نزلت بهؤلاء وغيرهم من علماء أهل السنة قد يطول ويخرجنا عن موضوعنا ولكننا نريد ان نبين ان هؤلاء وغيرهم الكثير لم يعتذورا بالتقية لأنهم يعرفون مواضعها ويعلمون أن صبرهم وبلاءهم فيه من الأجر العظيم وليس العكس صحيح كما في كتب إخواننا الشيعة.
والجواب: أن الشيعة لا يأخذون دينهم من غير أئمة أهل البيت عليهم السلام، فما ثبت عنهم أخذوا به ، وما لم يثبت عنهم تركوه، وأما غيرهم فليسوا لهم بقدوة، وأفعالهم ليست حجة عندهم، لأنه لم يقم عندهم دليل صحيح دال على لزوم اتباعهم واقتفاء آثارهم.
ثم إن أكثر من أخذهم المأمون العباسي من علماء أهل السنة عملوا بالتقية فقالوا: أن القرآن مخلوق. ولم يصر على موقفه إلا اثنان من جمع كثير، وهما أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح.
قال ابن كثير: وقد عين المأمون جماعة من المحدثين ليحضرهم إليه، وهم محمد بن سعد كاتب الواقدي، وأبو مسلم المستملي، ويزيد بن هارون، ويحيى بن معين، وأبو خيثمة.... فامتحنهم بخلق القرآن فأجابوه إلى ذلك وأظهروا موافقته وهم كارهون.... وأحضر خلقاً من مشايخ الحديث والفقهاء وأئمة المساجد وغيرهم فدعاهم ... فأجابوه بمثل جواب أولئك موافقة لهم، ووقعت بين الناس فتنة عظيمة.
إلى أن قال: فأحضر إسحاق ـ وهو نائب المأمون العباسي ـ جماعة من الأئمة وهم أحمد بن حنبل ، وقتيبة...
ثم قال: فلما امتحنهم إسحاق أجابوا كلهم مكرهين متأولين قوله تعالى (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) ، إلا أربعة، وهم أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح، والحسن بن حماد سجاده، وعبيد الله بن عمر القواريري... ثم استدعى بهم في اليوم الثاني فامتحنهم، فأجاب سجاده إلى القول بذلك فأطلق، ثم امتحنهم في اليوم الثالث فأجاب القواريري إلى ذلك فأطلق قيده. (البداية والنهاية 10/285-286).
وكان ممن عمل بالتقية في هذا المورد (علي بن المديني) شيخ البخاري ، الذي قال فيه البخاري : (كان أعلم أهل عصره)، وقال النسائي: ثقة مأمون ، أحد الأئمة في الحديث (تهذيب التهذيب 7/311). وكان يقول: ما في قلبي شيء مما أجبت إليه، ولكني خفت أن أقتل. قال: وعلم ضعفي إني لو ضربت سوطا واحدا لمت.
فهؤلاء هم عامة علماء أهل السنة في ذلك العصر وقد عملوا بالتقية في مسألة مهمة عندهم، وهي مسألة القول بعدم خلق القرآن، التي يتوقف عليها الإيمان والكفر عندهم، فإذا جازت التقية فيها أفلا تجوز التقية فيما هو دونها؟!
10- وأما قول الكاتب: نحن بحاجة قبل طرح مثل هذه المقترحات أن نمد أيدينا لبعض بغية الحق وان نفتح صدورنا وقلوبنا وأن نخلق حوارات حقيقية شفافة بعيدة عن التهجم أو التحريض فرسالة المصطفى صلى الله عليه وسلم واحدة ( إن الدين عند الله الإسلام ) إذا هنالك خلل لابد من طرحه فإن وجد أحد منا الحق عند الأخر سلم له وبعدها تكون مثل هذه المقترحات.
فجوابه: أنا لا نتحاشى من الحوار الهادف البناء، ولا مانع لدينا من فتح قنوات اتصال وتعارف وحوار مع الإخوة المنصفين من أهل السنة الذين يتحسسون آلام الأمة ويحملون همومها، ليتعرفوا عن كثب على مذهب الشيعة من خلال أقوال علمائه وكتبهم المعتبرة، لا من خلال تشنيعات وافتراءات أعدائه الالتقاطيين المتحاملين عليه، الذين يحتجون على الشيعة بكل حديث يحققون به هدفهم، وبكل قائل منهم ولو كان قوله شاذا عندهم.
وهذا لا يتنافى في الوقت نفسه مع تطوير المناهج الدينية وجعلها مشتملة على المشتركات العامة، وخالية من التحامل على الشيعة وغيرهم من الطوائف الإسلامية، ورميهم بالتكفير والتبديع والشرك وغيرها.
11- ثم إن الأخ الحطاب ذكر أن وضع الشيعة في بلادنا أفضل بكثير من وضع أهل السنة في إيران، وحيث إنه ليست لدي أية معلومات موثقة في هذا الموضوع، فإني لا أود أن أتكلم في موضوع بما لا أعرف، ولكني أقول: إن كل الشرائع السماوية قد حرمت الظلم والاعتساف، وأوجبت العدل والإنصاف، حتى مع الأعداء فضلا عن الأولياء. قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المائدة:8).
وغير صحيح أن يبرر الخطأ بخطأ مثله أو بما هو أعظم منه، ونحن نأمل أن تتضافر الجهود المخلصة في هذا البلد الطيب مع قيادته الحكيمة للوصول به إلى مراقي الكمال بإذن الله سبحانه وتعالى.
علي آل محسن
في 2 رمضان 1425هـ