تأملات في آيات الإفك (1)
قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْأِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ * لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ) [النور:11، 12].
ç معنى الآيتين:
¡ (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ): ظاهر في أن الذين افتعلوا حادثة الإفك جماعة، لا شخص واحد فقط، إلا إذا دل دليل من الخارج على أن الذي افتعله شخص واحد كما هو حال أكثر الأكاذيب، ولكن هناك من روجه، وأشاعه، وأكده، فصار حالهم واحداً، فكأنهم هم جميعا الذين جاؤوا بالإفك، ولعله لأجل ذلك ورد التعبير بـ (جاؤوا)، ولم يقل: افتعلوا.
والأفك: هو الكذب، والمراد به قذف واحدة من زوجات رسول الله ، وسمي القذف هنا إفكاً لأنه لم يكن صحيحاً، فإن القذف تارة يكون صدقاً، وتارة يكون كذبا، فمن رأى رجلاً وامرأة في حالة الزنا، ولم يكن معه ثلاثة شهود، فأخبر بذلك فهو قذف عند الله تعالى وإن كان صحيحاً.
¡ (عُصْبَةٌ مِنْكُمْ): العصبة هي الجماعة، قيل: هم من ثلاثة إلى عشرة، وقيل: من عشرة إلى أربعين، وقيل غير ذلك.
منكم: أي ممن صحب النبي ، بدليل الخطاب، لا من كفار العرب الآخرين، وهذا يدل على أن بعض صحابة النبي من كان يرتكب المعاصي الكبيرة، وهذا دليل على أنه ليس كل من لقي النبي مؤمناً به، ومات على ذلك فهو عدل صالح، لأن العدالة تختل بارتكاب كبائر الذنوب، وترجع بالتوبة.
¡ (لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ): لا شك في أن قذف المحصنة المؤمنة من أعظم الكبائر، كما قال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [النور:23]، فكيف إذا كانت تلك المؤمنة إحدى زوجات رسول الله ، فإن الجرم يعظم والذنب يتضاعف؛ لأن قذف الزوجة بالإفك يؤذي الزوج، فمضافاً إلى أنه فعل قبيح جدًّا في حد ذاته، فإنه يستلزم إيذاء رسول الله ، المتوعد عليه باللعنة والعذاب أيضاً، في قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً) [الأحزاب: 57].
فلا شك في أن حادثة الإفك شر على من صدر منهم ذلك، إلا أنها كانت خير لغيرهم، وإلا لكانت الذنوب العظام خيراً لا شراً، وهذا لا يقول به أحد، ولعل الوجه في كون هذه الحادثة خيراً أنها دلت على براءة زوجة النبي المقذوفة بالإفك، وأن ذلك يدل على بطلان القول بعدالة عموم الصحابة مهما ارتكبوا من الذنوب والكبائر كما يقوله بعضهم.
¡ (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْأِثْمِ): أي أن كل واحد من الذين جاؤوا بالإفك، والذين روَّجوه وأشاعوه، نصيب من الإثم الذي اكتسبه لنفسه، بحسب ما صنع من افتعال الإفك أو إشاعته والترويج له، وهذا يدل على أن الله تعالى لم يعط أحداً من المذنبين صك براءة عن النار وإن كانوا من صحابة رسول الله ، وأن قواعد الثواب والعقاب عامة، والناس فيها سواسية من دون تمييز أو محاباة.
¡ (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ): أي الذي تولى كبره أي الذي تولى دوراً كبيراً في افتعاله أو إشاعته وبثّه، له عذاب عظيم، وهي عبارة تطلق في القرآن الكريم غالباً ويراد بها العذاب الشديد الأخروي.
¡ (لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً): كلمة (لولا) تدل على التوبيخ والتنديم، أي أن المتكلم يوبخ المخاطب على المخالفة، أو يشعره بلزوم الندم على أنه لم يصنع ذلك، وربما يقال: إن كلمة (لولا) تدل على التحضيض، أي الحث الشديد على الفعل.
وهذه الآية أوضحت الوظيفة الشرعية عندما يسمع المؤمن قذفاً، فإن الواجب عليه أمران:
الأمر الأول: واجب قلبي، وهو حسن الظن بالمؤمنين المقذوفين والمؤمنات المقذوفات، فيظن بهم خيراً، فلا يصدق ما يقال فيهم من السوء والفحشاء، وإنما يبرئهم، ويحملهم على أحسن المحامل.
والأمر الثاني: واجب فعلي، وهو أن ينكر هذا الإفك أو القذف، ويردّه، ويكذبه، وهذا ما ورد في ذيل الآية، وهو قوله سبحانه: (وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ).
وقوله تعالى: (بِأَنْفُسِهِمْ) يراد به: ظن المؤمنين بإخوانهم المؤمنين خيرا، والتعبير بذلك فيه دلالة على أن المؤمن ينبغي أن ينظر إلى أخيه المؤمن على أنه كنفسه، فإن المؤمنين والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، ولهذا ورد في الحديث الشريف المروي عن النبي أنه قال: حب لأخيك ما تحبه لنفسك.
ç وهنا ينبغي أن ننبه على عدة أمور:
(1) أن قذف المؤمن والمؤمنة من أعظم الذنوب، وأشد المعاصي، وقد توعد الله عليه فاعله بالعذاب العظيم، فينبغي الحذر الشديد من الإقدام على مثل هذا الأمر، فإنه ظلم للمقذوف، وإيقاع للنفس في العذاب الأخروي واللعنة الإلهية.
(2) أن من أشاع القذف، وبثه في الناس، وخاض فيه، فهو شريك للقاذف في فعله القبيح، وله نصيبه الكبير من الإثم واللعن.
(3) أن الواجب على من سمع قذفاً لمؤمن أو مؤمنة أن يحسن الظن بالمؤمن المقذوف، وأن يرده ويكذبه.
(4) أنه لا يجوز للمؤمن أن يحدث الناس بما رأته عيناه وسمعته أذناه، فقد ورد في صحيحة محمد بن حُمران عن أبي عبد الله قال: من قال في أخيه المؤمن ما رأته عيناه، وسمعته أذناه، فهو من الذين قال الله عز وجل: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ في الدنيا والآخرة) [النور: 19]. (أمالي الصدوق: 276، الكافي 2/357).
(5) أنه إذا لم يجز للمؤمن أن يتكلم بما رأته عيناه وسمعته أذناه، فكيف يجوز له أن يتكلم بما يقال من الإشاعات التي لا يعلم صدقها، فإنه إن أشاعها وروَّجها فهو من الذين يحبون إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا من باب أولى.
(6) أن كثيراً من الناس مع شديد الأسف يتحدثون في أعراض الناس بلا روية، وبلا أي دليل، ويرون غير الدليل دليلا، ويرون القرينة التي ربما تكون كاذبة دليلاً، وهذا كله لا يجوز للمؤمن أن يخوض فيه.
(7) أن مقتضى السلامة ألا يتحدث المؤمن بما يعلم، فإنه لا يجب عليه ذلك، بل إن من وصف ما رأى فإنه ربما يكون قاذفاً كما قلنا، فالقاذف خاسر على كل حال وإن كان صادقاً.
قال الصدوق قدس سره في كتاب من لا يحضره الفقيه 2/399: قال أمير المؤمنين في وصيته لابنه محمد بن الحنفية: يا بني لا تقل ما لا تعلم، بل لا تقل كل ما تعلم.