برنامج شهر رمضان المبارك
روى الشيخ الصدوق قدس سره في كتاب الأمالي: 84 بسنده عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، قال: إن رسول الله خطبنا ذات يوم، فقال: أيها الناس، إنه قد أقبل إليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة، شهر هو عند الله أفضل الشهور، وأيامه أفضل الأيام، ولياليه أفضل الليالي، وساعاته أفضل الساعات، هو شهر دعيتم فيه إلى ضيافة الله، وجعلتم فيه من أهل كرامة الله... إلى آخر الخطبة الشريفة.
وهذه الخطبة المباركة التي ألقاها النبي الأعظم على مسامع الناس قبيل قدوم شهر رمضان، اشتملت على جملة وافرة من الفوائد المهمة التي ينبغي أن تتخذ منهجاً للإنسان المسلم في خلال شهر رمضان المبارك.
وفيها قد أوضح النبي أن شهر رمضان شهر الله تعالى، وأنه شهر امتاز بمزايا، وصفات، وبركات، ورحمات لم يمتز بها غيره من الشهور، ولأجل ذلك صار هذا الشهر موسماً مهماً ينبغي اغتنامه؛ لينال المؤمن جميع بركاته وفوائده، وعلى المؤمن أن يهيئ الأسباب، وأن يعقد العزم على الاستفادة القصوى من ضيافة الله تعالى ليكون من أهل الكرامة عنده سبحانه.
ولهذا قال : «فاسألوا الله ربكم بنيات صادقة وقلوب طاهرة أن يوفقكم لصيامه وتلاوة كتابة، فإن الشقي من حُرم غفران الله في هذا الشهر العظيم».
فإن الله تعالى بسط موائده لجميع خلقه، ودعاهم للتزود في هذا الشهر من رحماته وبركاته، والشقي كل الشقي من لم يستفيد من هذه الموائد الإلهية، إلى أن تصرمت أيام الشهر المبارك، وهو مشغول باللهو والمعاصي والعبث.
وهذا كله يدعو المؤمن لأن يجعل له منهجاً واضحاً يسير عليه، وبرنامجاً لا يتخطاه خلال هذا الشهر المبارك، وهذا المنهج الرمضاني له عدة جوانب:
1- المنهج العبادي:
امتاز شهر رمضان في الجانب العبادي بثلاثة أمور مهمة:
1- حصول الثواب على أمور مباحة:
فقد جعل الله تعالى الثواب والأجر على الأنفاس، وعلى النوم، مع أنها من المباحات التي لا يؤجر عليها المؤمن في غير شهر رمضان إذا لم ينو بمثل النوم التقرب إلى الله سبحانه.
قال نبينا : «أنفاسكم فيه تسبيح، ونومكم فيه عبادة».
2- مضاعفة الثواب على الأعمال الصالحة:
قال : «ومن تطوع فيه بصلاة كتب الله له براءة من النار، ومن أدى فيه فرضاً كان له ثواب من أدى سبعين فريضة فيما سواه من الشهور، ومن أكثر فيه من الصلاة علي ثقل الله ميزانه يوم تخف الموازين، ومن تلا فيه آية من القرآن كان له مثل أجر من ختم القرآن في غيره من الشهور».
3- قبول الأعمال واستجابة الدعاء فيه:
قال : «وعملكم فيه مقبول، ودعاؤكم فيه مستجاب».
وهذا الكرم الإلهي الفياض يدعو المؤمن للاجتهاد في العبادات والإكثار منها ما دامت مقبولة، كما يدعوه للإلحاح في الدعاء ما دام مستجاباً، والشقي من ضيع أيام الشهر المبارك ولياليه وساعاته بالكسل، والخمول، وأشقى منه من هتك هذا الشهر المبارك بالمعاصي والآثام وكبائر الذنوب.
ولهذا فإن شهر رمضان موسم عبادي مهم للمداومة على عمل الطاعات التي ربما أهملها المؤمن أو غفل عنها في سائر الشهور، مثل النوافل اليومية والليلية، وتلاوة كتاب الله العزيز، والصدقة، والدعاء، ونحو ذلك، إلا أن أفضل الأعمال في هذا الشهر الكريم هو الورع عن محارم الله تعالى.
2- المنهج السلوكي:
كما يجب على الصائم أن يمسك عن الأكل والشرب وسائر المفطرات فإنه يجب عليه أيضاً أن يكف عن سائر المعاصي، وعن مساوئ الصفات ورذائل الأخلاق.
ففي صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد الله الصادق قال: إذا صمت فليصم سمعك، وبصرك، وشعرك، وجلدك، وعدَّد أشياء غير هذا، قال: ولا يكون صومك كيوم فطرك. (وسائل الشيعة 7/116).
وعلى الصائم أن يتميز على غيره في سلوكه وأخلاقه وسائر تصرفاته، لأنه في عبادة، ومن كان في عبادة لزمه أن يتأدب بآداب الواقف بين يدي الله تعالى في عباده.
ولأهمية هذا الجانب السلوكي قال النبي : «من حسن منكم في هذا الشهر خلقه، كان له جواز على الصراط يوم تزل فيه الأقدام».
وقد ذكر النبي في هذه الخطبة الشريفة نماذج من حسن الخلق، فقال: «وقروا كباركم، وارحموا صغاركم، وصلوا أرحامكم، واحفظوا ألسنتكم».
وورد في حديث آخر، مروي عن أبي عبد الله قال: فإذا صمتم فاحفظوا ألسنتكم عن الكذب، وغضوا أبصاركم، ولا تنازعوا، ولا تحاسدوا، ولا تغتابوا، ولا تماروا، ولا تكذبوا، ولا تباشروا، ولا تخالفوا، ولا تغاضبوا، ولا تسابوا، ولا تشاتموا، ولا تنابزوا، ولا تجادلوا، ولا تبادوا، ولا تظلموا، ولا تسافهوا، ولا تزاجروا، ولا تغفلوا عن ذكر الله وعن الصلاة، والزموا الصمت، والسكوت، والحلم، والصبر، والصدق، ومجانبة أهل الشر، واجتنبوا قول الزور، والكذب، والمراء، والخصومة، وظن السوء، والغيبة، والنميمة... (وسائل الشيعة 7/119).
3- المنهج الاجتماعي:
ذكر النبي في هذه الخطبة الشريفة أربعة أمور في الجانب الاجتماعي:
1- الصدقة: قال : «وتصدقوا على فقرائكم ومساكينكم».
ويمكن للمؤمن أن يخصص في هذا الشهر المبارك جزءاً من ماله صدقة يصرفها على الفقراء والمساكين الذي لا يجدون طعاما ولا ما يقتاتون به.
2- التحنن على الأيتام: قال النبي في هذه الخطبة: «وتحننوا على أيتام الناس يتحنن على أيتامكم».
واليتيم ربما لا يكون فقيراً، إلا أن فقد الأب وهو في سن الطفولة ربما يسبب له حالة من الجوع العاطفي، الذي يمكن إشباعه بالتحنن عليه ورعايته والاهتمام به.
وقد روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال:
ما إن تأوهت من شيء رُزئتُ به كما تأوهت للأيتام في الصغرِ
قد مات والدهم من كان يكفلهم في النائبات وفي الأسفار والحضرِ
3- صلة الرحم: فإنه قال: «وصلوا أرحامكم».
ومن الحسن أن يقوم المؤمن في هذا الشهر بصلة أرحامه حتى لو كانت بينهم وبينه قطيعة، ويحاول أن يتواصل معهم أكثر، ويفتح معهم صفحة جديدة، ويخصص له وقتاً في الليل أو في النهار يصل فيه بعض أرحامه.
4- تفطير الصائمين: قال : «من فطر منكم صائماً مؤمناً في هذا الشهر، كان له بذلك عند الله عتق نسمة، ومغفرة لما مضى من ذنوبه».
ويستطيع المؤمن أن يدعو بعض المؤمنين للإفطار عنده، ولا يلزمه أن يتكلف لهم في ما يقدمه لهم من طعام، إذ يمكنه أن يقدم لهم الشيء المقبول من دون أن يضر ذلك به.
4- المنهج الصحي:
أشار النبي إلى هذا الجانب بقوله: «واذكروا بجوعكم وعطشكم فيه جوع يوم القيامة وعطشه»، وقال في رواية أخرى: صوموا تصحوا. (بحار الأنوار 59/269).
ومن المعلوم أن الصوم عادة ما يستتبع الشعور بالجوع والعطش، والصوم في حقيقته نوع من الحمية المفيدة، وفيه إراحة للجهاز الهضمي من تكديس الطعام وإدخال الطعام على الطعام الذي هو مضر بالصحة جداً.
ولكن إنما تتحقق فائدة الصوم الصحية إذا تم الصوم بصورته الصحيحة، أما إذا كان الصائم يأكل الطعام في إفطاره بشراهة حتى لا يكاد يتنفس، ويأكل من بعد الإفطار، ويستمر في تناول الأطعمة والأشربة إلى أن يطلع الفجر، ويأكل كل ما يجده أمامه حتى كأنه يخاف من مجاعة، فإن فائدة الصوم الصحية لا تتحقق، بل ربما يكون في اتباع هذه الطريقة السيئة في الأكل مضار صحية كثيرة، لأن التخمة وملء المعدة بالطعام هي من الأسباب الرئيسة لحصول الأمراض المتعددة.
5- المنهج الأسري:
أشار النبي إلى الجانب الأسري في شهر رمضان بقوله: «ومن خفَّف في هذا الشهر عما ملكت يمينه خفف الله عليه حسابه».
وما ملكت اليمين أعم من الجواري والعبيد، فيشمل الزوجة والأولاد والبنات، وكل من يعولهم الرجل، ويكونون تحت إمرته ونفوذه.
وفي كلام النبي حث للمؤمن على الرفق بأهله وعياله، وعدم تكليفهم بالمشاق في شهر رمضان، وحث على التخفيف عنهم في واجباتهم البيتية؛ لكي يتفرغوا لما هو أهم، كالدعاء والعبادة وغيرهما.
ومما يؤسف له أن بعض الرجال يستبد بكل أفراد الأسرة، ويطالب الزوجة بأن تطبخ له فنون الأطعمة، وربما يكلف بناته أيضاً بذلك، ولا يقنع بالأكل الذي يشبعه، ويطلب الكثير من الطعام الذي ربما لا يأكله، وربما يوبخ الزوجة إذا رأى أنها لم تصنع له لوناً معيناً من الطعام يحبه.
6- المنهج الثقافي:
كما أن شهر رمضان موسم عبادي وأخلاقي واجتماعي فهو أيضاً موسم ثقافي، والمجالس الحسينية التي تُعقد في منطقتنا كثيرة جدًا، وكثير من الخطباء المتميزين الذين ربما لا يتواجدون في سائر أيام السنة، لكونهم غائبين في الحوزات العلمية، يتواجدون في شهر رمضان، فتكون المجالس الرمضانية جمعت بين الكم والكيف في آن واحد.
وعليه، فمن المناسب جدًّا لكل مؤمن أن يجعل من ضمن برنامجه الليلي حضور أحد المجالس الحسينية، أو حضور مجالس متفرقة، ليقتطف من كل بستان منها زهرة، ومن كل مجلس فائدة.
ولو أن الصائم نظم وقته لرأى أن وقته يتسع لتخصيص عدة ساعات في الليل والنهار لقراءة ما تيسر له من كتاب الله العزيز، ولقراءة بعض الكتب الدينية أو الثقافية أو العلمية أو غيرها، وسيتمكن خلال الشهر المبارك من قراءة كتاب واحد أو أكثر، لأنه مما لا يليق بمن يعيش في هذا العصر أن يمر عليه عام وهو لم يقرأ كتاباً واحداً على الأقل.