ثبوت هلال أول الشهر
يكثر التساؤل في كل عام عن ثبوت الهلال في الليلة التي يتوقع أن تكون أول ليالي شهر رمضان، وفي الليلة التي يتوقع أن تكون ليلة عيد الفطر، وقد يتحير بعض الناس خصوصاً عندما يختلف العلماء في حكمهم بثبوت الهلال وعدمه، ولعل هناك من يشعر أنه لا يعرف وظيفته الشرعية في خضم هذا الاختلاف، وقد يعمل بعضهم بغير وظيفته، بسبب عدم معرفته بالمسائل الشرعية المتعلقة بثبوت الهلال في بداية الشهر، وعدم التفاته إلى وجود مسائل خلافية بين الفقهاء ترتبط بثبوت الهلال.
وسأحاول في هذا المقال إيضاح بعض الأمور التي ربما يكون كثير من الناس غير متنبهين لها؛ لكي يعرفوا وظيفتهم الشرعية عندما يتكرر لهم مثل هذا الأمر في مرات قادمة.
كيف يتحقق ثبوت هلال أول الشهر؟:
هناك عدة أمور ذكرها الفقهاء يثبت بها هلال أول الشهر، وهي:
1- الرؤية: فإن المكلف إذا رأى هلال شهر رمضان بنفسه وجب عليه الصوم، وإذا رأى هلال شهر شوال وجب عليه الإفطار، سواء أفطر الناس أم صاموا، فإن وظيفته لا ترتبط بوظيفتهم في هذه الحالة.
والأحاديث التي تدل على أن الصيام في شهر رمضان منوط بالرؤية كثيرة جداً ومروية في كتب الفريقين.
منها: الحديث النبوي المشهور: صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته.
ومنها: ما رواه شيخ الطائفة الطوسي قدس الله نفسه بسند موثق عن عبد الله بن بكير عن أبي عبد الله الصادق أنه قال: صوموا للرؤية وأفطروا للرؤية.
2- البينة العادلة: فإذا شهد رجلان عادلان برؤية الهلال، وكانت شهادتهما متطابقة، وجب صيام شهر رمضان، والإفطار في يوم العيد.
3- الاطمئنان: الناشئ من الشياع أو غيره، فإذا حصل اطمئنان بأن هذا اليوم هو أول أيام شهر رمضان، وجب الصيام؛ لأن الاطمئنان بنفسه حجة.
4- مضي ثلاثين يوماً من الشهر السابق: فإذا مضى من شهر شعبان ثلاثون يوماً، فإن اليوم الحادي والثلاثين هو أول أيام شهر رمضان؛ لأن شهور السنة الهجرية لا تزيد عن ثلاثين يوماً.
مسائل خلافية بين الفقهاء في ثبوت الهلال:
اختلفت فتاوى الفقهاء فيما يتعلق بثبوت الهلال، وعليه يتحتم على كل مكلف أن يتعلم فتاوى مرجعه الذي يقلده في ثبوت الهلال؛ لكي يصوم أو يفطر طبقاً لفتاوى مرجعه، لا طبقاً لفتاوى مرجع آخر لا يقلده.
فمن المسائل التي وقع فيها الاختلاف بين الفقهاء:
1- تطويق الهلال: فحينما يظهر الهلال مطوقاً (أي مثل الدائرة)، فإن ذلك يدل عند بعض الفقهاء - ومنهم السيد الخوئي قدس سره - على أن هذه الليلة التي رؤي فيها الهلال بهذه الكيفية هي الليلة الثانية من الشهر، لكن أغلب مراجع العصر، كالسيد السيستاني، والشيخ الوحيد الخراساني، والشيخ الفياض، دامت ظلالهم الشريفة، لا يرون دلالة التطويق على ذلك.
2- اتحاد الأفق: فإن الفقهاء اختلفوا في ثبوت الهلال في بلاد ما إذا رؤي الهلال في بلاد أخرى تجتمع معها في جزء من الليل أو جزء من النهار، فلو رؤي الهلال في الحجاز فهل يثبت أول الشهر بهذه الرؤية في المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية أو في البحرين أو في الكويت مثلاً أم لا؟
بعض الفقهاء كالسيد الخوئي قدس سره، يرى أنه يثبت أول الشهر في بلدك إذا رؤي الهلال في بلد يجتمع مع بلدك في جزء من الليل أو جزء من النهار، سواء كانت تلك البلاد في المشرق أم في المغرب، ولكن بعض مراجع العصر كالسيد السيستاني دام ظله لا يرى ثبوت الهلال بذلك، بل يشترط لثبوته في بلد آخر أن يتحد أفقها مع أفق بلد المكلف، بحيث لو رؤي في أحدهما يرى في الآخر.
3- شيوع الرؤية: والمراد بالشيوع هو استفاضة الرؤية وكثرتها، فحينما يخرج جماعة من الناس للاستهلال، في مكان واحد، وقوة أبصارهم متقاربة، وظروف الرؤية متساوية، والجميع ينظر إلى جهة واحدة، فإن بعض الفقهاء كالسيد السيستاني دام ظله يشترط لثبوت الهلال في هذه الحالة أن يراه أغلبية المستلهين، ولا يثبت بالعدد القليل إذا ادعوا رؤيته في هذه الحالة، بينما يرى جملة من الفقهاء كالسيد الخوئي قدس سره كفاية ثبوت الهلال برؤية شاهدين عادلين في هذه.
4- الرؤية بالعين المسلحة: أي الرؤية بالمنظار أو غيره من وسائل التكبير، وأكثر الفقهاء لا يذهبون إلى ثبوت الرؤية بالعين المسلحة، بل يجب أن تكون الرؤية بالعين المجردة.
5- الحساب الفلكي: والمعمول عليه عند أغلب الفقهاء إن لم يكن جميعهم، عدم ثبوت الهلال بالحسابات الفلكية.
وقد فصَّل السيد السيستاني دام ظله في هذه المسألة، فذهب إلى أن الهلال لا يثبت بالحساب الفلكي، ولكن لو اتفق الفلكيون على استحالة رؤية الهلال في ليلة معينة، لعدم ولادته في تلك الليلة مثلاً، أو أنه وإن كان قد وُلد بالفعل إلا أنه لم تمضِ عليه مدة كافية تجعل رؤيته ممكنة وفقاً لحساباتهم الفلكية، فإنه يعتد بقول الفلكيين في ذلك، ويترتب عليه أنه لو شهد بعض الشهود برؤية الهلال والحالة هذه، لم تقبل شهادتهم، للاطمئنان بوقوعهم في الاشتباه في ادعائهم الرؤية.
6- كفاية رؤية الهلال في البلاد الشرقية لثبوته في البلاد الغربية: فقد ذهب عدد من الفقهاء إلى أنه إذا رؤي الهلال في بلد ما كفى في الحكم بثبوته في كل البلاد التي تقع غرب بلد الرؤية، ولكن لا يثبت الهلال في البلاد التي تقع شرق بلد الرؤية. وينبغي ملاحظة أن هذه المسألة تختلف عن مسألة اتحاد الأفق التي تطرقنا إليها سابقاً؛ لأن تلك المسألة لا يفرق فيها بين الشرق والغرب.
والسيد السيستاني لا يرى قاعدة (كفاية رؤية الهلال في البلاد الشرقية لثبوته في البلاد الغربية) على إطلاقها، بل يشترط لثبوت ذلك أن يتحد البلدان في خط العرض، ولا يتعدى الفارق بينهما درجة أو درجتين فقط.
التحقق من الأسس التي تمَّ عليها تثبيت الهلال:
كل ما قلناه من اختلاف مراجع العصر في فتاواهم بثبوت هلال الشهر يدعو المكلفين للتحقق من منشأ تثبيت الهلال الصادر من شخص ما، أو من جهة ما، أو بلد ما، فربما يثبت الهلال مثلاً عند أحد العلماء اعتماداً على التطويق، وإذا كان المكلف من مقلدي من لا يرى حجية التطويق، لم يجز له أن يعتمد تثبيت الهلال بالنحو المذكور، وكذا إذا رؤي الهلال في بلد آخر لا يتفق مع بلدك في الأفق، فلا يثبت الهلال عند من كان مرجعه يشترط اتحاد الأفق.
ومن كان مقلداً من يشترط لثبوت الهلال شيوع الرؤية، لم يجز له أن يرتب الأثر على رؤية قلة من الشهود خرجوا في جمع كثير من الناس مع تساوي جميع ظروفهم.
وهكذا من كان مقلداً لمن لا يرى ثبوت الهلال بالرؤية بالعين المسلحة، فإنه لا يصح منه أن يرتب الأثر على ثبوت الهلال عند من يكتفي بالرؤية بالعين المسلحة كما هو الحال في الرأي الرسمي في إيران مثلاً.
وكذلك الحال في بقية المسائل الأخرى، كمسألة الحسابات الفلكية على تفاصيلها، وكمسألة كفاية رؤية الهلال في البلاد الشرقية التي بها يثبت الهلال عند بعضهم في البلاد الواقعة غرب بلد الرؤية.
وعليه، فإن الواجب على المكلف أن يتحقق من الحجة المعتمدة في تثبيت الهلال؛ ليحرز أنها موافقة لرأي المرجع الذي يقلده، ولا يصح له أن يرتب أثراً على تثبيت الهلال المبتني على مسائل مخالفة لفتاوى مرجعه في ثبوت الهلال.
ولا بد من لفت الأنظار إلى أنه لا يكفي لاعتماد ثبوت الهلال عدالة من يدعي رؤية الهلال، أو جلالة من يتصدّى لتثبيت الهلال، سواء أكان عالماً، أم جهة، أم دولة، بل يجب كذلك أن يكون تثبيت الهلال مؤسَّساً على ما موافق فتاوى مرجع التقليد في تثبيت الهلال.
أهمية توضيح نتائج الاستهلال ببيان مفصل:
بما أن الناس يرجعون في تقليدهم إلى مراجع تقليد مختلفين في فتاوى ثبوت الهلال، فإني أرى من الضروري على الجهات التي تتصدى لتثبيت الهلال، أن توضح جميع نتائج وتفاصيل الاستهلال المهمة، بإصدار بيان ينشر في المواقع الإخبارية المعروفة، لكي يتنسى لكل مكلف أن يحرز توافق هذه النتائج مع فتاوى مرجعه ليعمل بها، أو عدم توافقها فيكون في سعة من العمل بها.
والملاحظ أن بعض الجهات التي تتصدى لتثبيت الهلال، قد لا تراعي عندما تعلن عن ثبوت الهلال عندها اختلاف فتاوى المراجع البارزين في ثبوت الهلال، وربما لا تلاحظ اختلاف الفتاوى التي تتبناها تلك الجهة مع فتاوى أشهر مراجع الطائفة المعاصرين، بل يتم الإعلان عن ثبوت الهلال من دون أن يوضح للناس تلك الفتاوى التي تم الاعتماد عليها في تثبيت الهلال، مع أني أرى من الضرورة بمكان أهمية ذكر كل هذه التفاصيل المهمة في بيان يوضح عدد المستهلين، وعدد من رأى الهلال، وأسماءهم، وظروف الاستهلال، ومكان الاستهلال، وغير ذلك من التفاصيل المهمة التي يستفيد منها المكلفون في إحراز أن ثبوت الهلال موافقاً لفتاوى مراجعهم.
الوظيفة الشرعية في مثل هذه الحالة:
في هذا العام حصلت بلبلة، ووقع اضطراب وحيرة بين الناس، ناشئة من الاختلاف في ثبوت الهلال في مساء يوم الأحد ليلة الإثنين، وبقي الكثير من الناس في منطقتنا في حيرة من أمرهم يتساءلون، هل ثبت الهلال أم لا؟
وقد علمت أن بعضهم أصبح صائماً بنية الاستحباب، باعتبار أن يوم الإثنين آخر أيام شهر شعبان، ثم جاءته رسائل بعد الزوال عبر الهاتف النقال تخبر بثبوت هلال شهر رمضان ليلة الإثنين، فصار في حيرة من أمره، هل يستمر في نية الاستحباب، أو يبدل النية إلى الوجوب.
والذي أود بيانه هنا أن كل مكلف حصل عنده اطمئنان بثبوت الهلال اعتمادًا على من قال بثبوت الهلال ليلة الإثنين، فإن هذا الاطمئنان كافٍ لصحة صوم يوم الإثنين بنية الوجوب، إذا علم أن ثبوت الهلال كان مؤسساً على ما يطابق فتاوى مرجعه في ثبوت الهلال، سواء حصل هذا الاطمئنان بعد أن نوى الاستحباب، أم حصل له ذلك من الليل، فلو صام بنية الاستحباب، ثم اطمأن بأن يوم الاثنين هو أول أيام شهر رمضان، فإن كل ما عليه هو تبديل نيته من الاستحباب إلى الوجوب، وبذلك يصح صومه.
بل حتى لو لم يثبت عنده أن ذلك اليوم من شهر رمضان إلا بعد الغروب، وكان المكلف قد نوى الصيام بنية الاستحباب، فصيامه حينئذ صحيح، ولا يجب عليه قضاؤه بعد ذلك.
وإذا لم يحصل للمكلف أي اطمئنان، أو حصل له اطمئنان بالوجوب، ثم عاد إليه شك في أثناء النهار، فتحير، وصار لا يعرف هل يصوم وجوباً أو استحباباً، فعليه حينئذ أن يصوم بنية القربة المطلقة، من دون حاجة إلى نية الوجوب أو الاستحباب، أو يمكنه أن ينوي الصيام بحسب ما هو في علم الله، قربة إلى الله تعالى، أو يصوم بحسب ما هو مخاطب به، فإن فعل ذلك صح صومه إن شاء الله تعالى.