الصوم.. مدرسة أخلاقية قل المستفيد منها
نستقبل شهر رمضان المبارك في كل عام بشراء الأصناف المتعددة والكثيرة من المأكولات الشهية، ونتأهب لإعداد أنواع المأكولات الرمضانية، والحلويات المختلفة، وهي ظاهرة تتكرر في كل عام، حتى صارت سمة واضحة تدل على قرب قدوم الشهر المبارك، ولذلك تزدحم الأسواق التجارية بالمتسوقين الذين يملؤون السلال والأكياس بكل ما لذ وطاب، حتى بلغني أن بعضهم ربما يشتري من الطعام ما يملأ سيارة شحن للنصف الأول من الشهر، ومثله للنصف الثاني أيضاً.
والظاهر أن الباعث على الاهتمام بالطعام في شهر رمضان بهذا النحو الغريب هو أن كثيراً من الناس فهموا أن الصيام ما هو إلا إمساك عن الطعام لأجل أكل الطعام، ومن تجاوزوا ذلك رأوا أنه إمساك عن المفطرات المعروفة فقط، من الطعام والشراب وغيرهما، ولم يعرفوا أن الصيام مدرسة أخلاقية ينبغي الاستفادة منها والخروج منها كل عام بمحصلة سلوكية مهمة، فإنه قد ورد عن إمامنا الصادق عليه السلام في صحيحة محمد بن مسلم أنه قال: إذا صمتَ فليصم سمعك، وبصرك، وشعرك، وجلدك.. وعدَّد أشياء غير هذا، وقال: لا يكون يوم صومك كيوم فطرك. (الكافي 4/87).
وعن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: فإذا صمتم فاحفظوا ألسنتكم، وغضوا أبصاركم، ولا تنازعوا، ولا تحاسدوا. وقال: إذا صمت فيصم سمعك وبصرك عن الحرام والقبيح، ودع المراء، وأذى الخادم، وليكن عليك وقار الصيام، ولا تجعل يوم صومك كيوم فطرك. (الكافي 4/87).
وصوم السمع هو كفه عن سماع كل ما حرمه الله تعالى من غناء، وغيره، وصوم اللسان هو كبحه عن كل المحرمات اللسانية، كالغيبة، والنميمة، والبهتان، والفحش، والسباب، وغيرها، وصوم البصر هو الغض عن النظر إلى المحرمات، والعورات، وغيرها، وهكذا الحال في كل الجوارح، كاليد التي تكف عن السرقة، والاعتداء، والرِّجْل التي تمنع عن السعي لارتكاب المعاصي، أو الذهاب إلى أماكن معصية الله، وغير هذه الجوارح التي يجب كفها عن كل معصية، ومنعها عن كل محرم.
ولأجل عدم استيعاب الكثير من الناس للغاية الأساس من الصوم نجد أن الكثيرين يمتنعون عن تناول المفطرات في نهار شهر رمضان، إلا أنهم لا يتورَّعون عن ارتكاب المحرمات الأخرى التي لم يذكرها الفقهاء في ضمن المفطرات، مع أنها تتنافي مع قدسية شهر رمضان المبارك، ومع صيام الجوارح بالنحو الذي أشرنا إليه.
ولذلك يمر علينا شهر رمضان ويخرج، ويصوم الناس ويفطرون، ولكننا ربما لا نلاحظ أي تغير في سلوكنا وأخلاقنا، أو في اهتمامنا بالتقرب إلى الله تعالى، والبعد عن معاصيه سبحانه، ولا نجد أدنى فرق في أنفسنا بين حالنا قبل شهر رمضان وحالنا بعده، مع أن الله تعالى قد أوضح في كتابه العزيز أنه سبحانه إنما فرض الصوم على الناس من أجل أن يفوزوا بالتقوى، فقال عز شأنه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 183].
فإذا كنا لم نلحظ في أنفسنا حصول التغيير المفترض حصوله، فإن ذلك مؤشر واضح يدل على أنا لم نصم شهر رمضان بالنحو الصحيح الذي أراده الله تعالى، وكل ما فعلنا طيلة شهر رمضان أننا امتنعنا فقط عن الأكل والشرب نهاراً، وأكلنا هذا الطعام ليلاً، لا أكثر من ذلك، وأن الصوم لم يمس شيئاً من مشاعرنا، ولم يغير بعضاً من سلوكنا، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه وصف هؤلاء بقوله: كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش. (بحار الأنوار 93/294).
ومع أن بعض الأخبار المروية عن النبي صلى الله عليه وآله قد أوضحت أن التصرف الأمثل الذي ينبغي صدوره من كل صائم عندما يسيء إليه مسيء أو يتجرأ عليه متجرئ، هو الكف والإعراض عمن شتمه، والسلام عليه، والدعاء له بالخير، حيث قال: ما من عبد صالح يُشتم، فيقول: إني صائم، سلام عليك، لا أشتمك كما شتمتني. إلا قال الرب تبارك وتعالى: استجار عبدي بالصوم من شر عبدي. قد أجرته من النار. (الكافي 4/88)، إلا أن بعض الناس يرى أن صومه عن الأكل والشرب سبب كافٍ لشتم الناس وسبابهم، وعدم تحمل أدنى شيء يبدر منهم نحوه، وكأنه يلزم الناس بأن يتجنَّبوه ويحذروه؛ لأن له حال صيامه شيطاناً يعتريه ويستفزه، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وآله سمع امرأة تسب جارية لها وهي صائمة، فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وآله بطعام، فقال لها: كلي. فقالت: إني صائمة. فقال لها: كيف تكونين صائمة وقد سببتِ جاريتك؟ إن الصوم ليس من الطعام والشراب. (الكافي 4/87).
هذه هي مدرسة الصوم الأخلاقية، فهل نكون من المرحومين الذين ينتهلون من عبقها، يتفيأون من ظلالها، ويجنون من ثمارها؟ أو نكون من المحرومين الذين باؤوا بالخيبة والخسران، ورجعوا بالندامة والحرمان. نسأل الله أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال.