حرمة الجزع والنياحة عند المصيبة
أشكل على الشيعة بعض المخالفين لهم، فقال: يقول سبحانه وتعالى: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) [البقرة: 155-157].
ويقول عزَّ وجل: (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ) [البقرة: 177].
وذكر في «نهج البلاغة»: «وقال علي رضي الله عنه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم مخاطباً إياه صلى الله عليه وسلم: لولا أنك نهيت عن الجزع وأمرت بالصبر لأنفدنا عليك ماء الشؤون». (نهج البلاغة، ص 576. وانظر: مستدرك الوسائل 2/445).
وذكر أيضاً: «أن عليًّا عليه السلام قال: من ضرب يده عند مصيبة على فخذه فقد حبط عمله». (انظر: الخصال للصدوق، ص 621، ووسائل الشيعة 3/270).
وقد قال الحسين لأخته زينب في كربلاء كما نقله صاحب «منتهى الآمال» 1/248 بالفارسية وترجمته بالعربية: «يا أختي، أحلفك بالله عليك أن تحافظي على هذا الحلف، إذا قُتلتُ فلا تشقي عليّ الجيب، ولا تخمشي وجهك بأظفارك، ولا تنادي بالويل والثبور على شهادتي».
ونقل أبو جعفر القمي أن أمير المؤمنين عليه السلام قال فيما علم أصحابه: «لا تلبسوا سواداً، فإنه لباس فرعون». (من لا يحضره الفقيه، لأبي جعفر محمد بن بابويه القمي 1/232، ورواه الحر العاملي في وسائل الشيعة 2/916).
وقد ورد في «تفسير الصافي» في تفسير آية: (وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) [الممتحنة: 12] أن النبي صلى الله عليه وسلم بايع النساء على أن لا يسوِّدْن ثوباً، ولا يشققن جيباً، وأن لا ينادين بالويل.
وفي «فروع الكافي» 5/527 للكليني أنه صلى الله عليه وسلم وصى فاطمة رضي الله عنها، فقال: « إذا أنا مت فلا تخمشي وجهاً، ولا ترخي عليّ شعراً، ولا تنادي بالويل، ولا تقيمي عليَّ نائحة».
وهذا شيخ الشيعة محمد بن الحسين [كذا] بن بابويه القمي الملقب عندهم بالصدوق يقول: «من ألفاظ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التي لم يُسبق إليها: «النياحة من عمل الجاهلية» (رواه الصدوق في من لا يحضره الفقيه 4/271 – 272، كما رواه الحر العاملي في وسائل الشيعة 2/915، ويوسف البحراني في الحدائق الناضرة 4/149، والحاج حسين البروجردي في جامع أحاديث الشيعة 488/3، ورواه محمد باقر المجلسي بلفظ: النياحة عمل الجاهلية (بحار الأنوار 82/103)).
كما يروي علماؤهم: المجلسي والنوري والبروجردي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «صوتان ملعونان يبغضهما الله: إعوال عند مصيبة، وصوت عند نغمة؛ يعني النوح والغناء». (أخرجه المجلسي في بحار الأنوار 82/103، ومستدرك الوسائل 1/143-144، وجامع أحاديث الشيعة 3/488، ومن لا يحضره الفقيه 2/271).
والسؤال بعد كل هذه الروايات:
لماذا يخالف الشيعة ما جاء فيها من حق؟! ومن نصدق: الرسول صلى الله عليه وسلم وأهل البيت أم الملالي؟!
والجواب: أن هذه المسألة مسألة فقهية، وليست عقدية، فليس هذا الإشكال إشكالاً على أصل المذهب، والخطأ في المسألة الفقهية لو ثبت لا يدل على بطلان نفس المذهب.
وعلماء المذهب أفتوا بحرمة الجزع وشق الجيوب وخمش الوجوه والدعاء بالويل والثبور عند موت الميت لدلالة الأحاديث الكثيرة على ذلك، إلا أن جملة أخرى من الأحاديث الصحيحة دلت على أن كل الجزع مكروه إلا الجزع على أبي عبد الله الحسين عليه السلام، كصحيحة معاوية بن وهب عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال ـ في حديث ـ: كل الجزع والبكاء مكروه ما خلا الجزع والبكاء لقتل الحسين عليه السلام. (وسائل الشيعة 2/923).
والجمع بين تلك الأحاديث وهذه يقتضي حرمة كل جزع إلا الجزع على أبي عبد الله الحسين عليه السلام، والأحاديث الناهية ناظرة إلى الجزع على غير الإمام الحسين عليه السلام.
وبه يتبيَّن أن الجزع قسمان: قسم محرَّم أو مكروه، وقسم آخر مباح أو مستحب.
قال الحر العاملي قدس سره: ويفهم من أحاديث الجزع أنه قسمان كما مرَّ في الصبر. (وسائل الشيعة 2/916).
ولا ينبغي أن يتوهم متوهم أن ما قلناه يستلزم تفضيل الإمام الحسين عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وآله الذي لم يرد في الأحاديث حسن الجزع على مصابه صلى الله عليه وآله؛ لأن ذلك لا دلالة فيه بأي نحو، فإن إظهار الجزع على مصاب الإمام الحسين عليه السلام مرتبط بإظهار ظلامته، والتنديد بظلم بني أمية ومن سار على نهجهم.
قال في صراط النجاة: إن البكاء على الحسين عليه السلام من شعائر الله؛ لأنه إظهار للحق الذي من أجله ضحى الحسين عليه السلام بنفسه، وإنكار للباطل الذي أظهره بنو أمية، ولذلك بكى زين العابدين عليه السلام على أبيه مدة طويلة، إظهاراً لمظلومية الحسين عليه السلام، وانتصاراً لأهدافه. (صراط النجاة 3/442).
والبكاء على النبي صلى الله عليه وآله أو على أمير المؤمنين عليه السلام أو على غيرهما من أئمة أهل البيت عليهم السلام لا يحمل هذا المعنى، ولذلك لم يرد فيه ما ورد في الحث على الجزع على الإمام الحسين عليه السلام.
وأما نهي الإمام الحسين عليه السلام لأخته السيدة زينب بنت أمير المؤمنين عليه السلام عن أن تشق عليه جيبها، أو تخمش عليه وجهها، أو تنادي عليه بالويل والثبور، فهو محمول على أن النهي إنما كان في ذلك الوقت في كربلاء، حيث بمرأى من أعدائه المقاتلين له، حذراً من أن يشمتوا بها أو بالإمام الحسين عليه السلام، ولهذا قال لها: «إذا أنا قتلت فلا تشقي عليَّ جيباً... إلخ».
وحاصل الجواب هو أن مقتضى الجمع بين الأحاديث هو حمل الروايات الناهية عن إظهار الجزع على الجزع على الأرحام أو غيرهم، وهي مخصصة بما ورد من أن الجزع على أبي عبد الله الحسين عليه السلام ليس قبيحاً، فيكون كل جزع قبيح إلا على الإمام الحسين عليه السلام.
وما يصدر من الشيعة من لطم الوجوه والضرب على الصدور داخل في هذا الباب الذي لم تثبت حرمته عندهم بحسب أحاديثهم الصحيحة.
ثم إن أهل السنة رووا أن أم فروة أخت أبي بكر أقامت النوح على أبي بكر بعد وفاته.
قال البخاري في صحيحه 2/722: باب إخراج أهل المعاصي والخصوم من البيوت بعد المعرفة، وقد أخرج عمرُ أختَ أبي بكر حين ناحت.
قال ابن حجر في فتح الباري: قوله: «وقد أخرج عمرُ أختَ أبي بكر حين ناحت»، وصله ابن سعد في الطبقات بإسناد صحيح من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب، قال: لما توفي أبو بكر أقامت عائشة عليه النوح، فبلغ عمر، فنهاهن فأبين. فقال لهشام بن الوليد: اخرج إلى بيت أبي قحافة - يعني أم فروة - فعلاها بالدرة ضربات، فتفرَّق النوائح حين سمعن بذلك. ووصله إسحاق بن راهويه في مسنده من وجه آخر عن الزهري، وفيه: فجعل يخرجهن امرأة امرأة وهو يضربهن بالدرة. (فتح الباري 5/92).
وضرب عمر لأم فروة ولمن كان معها - وربما كان معها جملة من الصحابيات - لا يدل على أن النياحة محرمة، فلعله اجتهاد من عمر، فإنه كان لا يحب أن يُبكى على الميت، وكان يضرب الناس على ذلك، مع أن البكاء على الميت جائز، بل فعله أشرف الخلق رسول الله صلى الله عليه وآله كما دلت على ذلك الروايات الصحيحة.
فإذا كان الشيعة قد أخطؤوا في ذلك، فقد سبقهم إلى هذا الخطأ بعض الصحابيات الجليلات عند أهل السنة.