هل ارتد صحابة النبي صلى الله عليه وآله من بعده؟
رويت في كتب الشيعة الإمامية بعض الروايات التي تدل بظاهرها على أن أكثر الصحابة ارتدوا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله إلا أنفار قلائل.
منها: ما رواه الشيخ الكشِّي قدس سره في رجاله كما في اختيار معرفة الرجال، ص 5 بسنده عن أبي جعفر الباقر عليه السلام أنه قال: ارتد الناس إلا ثلاثة نفر: سلمان، وأبو ذر، والمقداد. قال الراوي فقلت: عمار؟ قال: كان جاض جيضة، ثم رجع، ثم قال: إن أردتَ الذي لم يشك ولم يدخله شيء فالمقداد، فأما سلمان فإنه عرض في قلبه أن عند أمير المؤمنين عليه السلام اسم الله الأعظم، لو تكلَّم به لأخذتهم الأرض، وهو هكذا، وأما أبو ذر فأمره أمير المؤمنين عليه السلام بالسكوت، ولم يأخذه في الله لومة لائم، فأبى إلا أن يتكلم. (اختيار معرفة الرجال: 5). وجاض: أي عدل عن الحق، وفي بعض النسخ: حاص، أي انهزم.
وفي حديث آخر عن أبي جعفر عليه السلام، قال: ارتد الناس إلا ثلاثة نفر: سلمان، وأبو ذر، والمقداد، وأناب الناس بعد، كان أول من أناب أبو ساسان [حصين بن منذر الوقاشي صاحب راية علي عليه السلام]، وعمار، وأبو عروة، وشتيرة، فكانوا سبعة، فلم يعرف حق أمير المؤمنين عليه السلام إلا هؤلاء السبعة. (نفس المصدر: 11).
وروى فيه أيضاً بإسناده عنه عن أبيه عن جدِّه عن علي عليه السلام قال: ضاقت الأرض بسبعة، بهم تُرزقون، وبهم تُنصرون، وبهم تُمطرون، منهم: سلمان الفارسي، والمقداد، وأبو ذر، وعمار، وحذيفة، رحمهم الله، وكان علي عليه السلام يقول: وأنا إمامهم، وهم الذين صلوا على فاطمة عليها السلام. (نفس المصدر: 6).
وروى الكليني قدس سره في الكافي عن حمران بن أعين قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: جعلت فداك ما أقلَّنا! لو اجتمعنا على شاة ما أفنيناها؟ فقال: ألا أحدثك بأعجب من ذلك؟ المهاجرون والأنصار ذهبوا إلا ـ وأشار بيده ـ ثلاثة. قال حمران: فقلت : جعلت فداك، ما حال عمار؟ قال: رحم الله عماراً أبا اليقظان، بايع وقُتل شهيداً، فقلت في نفسي: ما شيء أفضل من الشهادة. فنظر إلي فقال: لعلك ترى أنه مثل الثلاثة؟ أيهات، أيهات. (الكافي 2/244).
وهذه الروايات بعد الغض عن أسانيدها فإنها لا تدل على أن عامة الصحابة ارتدوا عن الدين، ورجعوا إلى الكفر، فإن الارتداد في اللغة هو الرجوع عن الشيء. قال تعالى: ﴿فَلَمَّا أَن جَاء الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [يوسف: 96]، وقال سبحانه: ﴿قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾ [النمل: 40]، وقال عزَّ من قائل: ﴿مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء﴾ [إبراهيم: 43].
وإذا أُريد بالارتداد الرجوع عن الدين قُيِّد، ولهذا لم يَرِد في كتاب الله بهذا المعنى إلا مقيَّداً. قال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ [المائدة: 54]، وقال: ﴿وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ﴾ [البقرة: 217]، وقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ﴾ [محمد: 25]، وقال: ﴿وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ﴾ [المائدة: 21].
ولا يخفى أن الأحاديث السابقة لم يقيَّد فيها الارتداد بأنه عن الدين أو على الأدبار والأعقاب.
والمراد بالارتداد فيها هو رجوع الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وآله عما التزموا به في حياته صلى الله عليه وآله من بيعة علي بن أبي طالب عليه السلام بإمرة المؤمنين، إذ بايعوا غيره.
وبهذا المعنى للارتداد فسَّر ابن الأثير وابن منظور هذه اللفظة التي وردت في أحاديث الحوض التي سيأتي ذكرها، حيث قالا:
وفي حديث القيامة والحوض: «فيقال: إنهم لم يزالوا مرتدين على أدبارهم القهقرى»: أي متخلِّفين عن بعض الواجبات، ولم يُرِد ردَّة الكفر، ولهذا قيَّده بأعقابهم؛ لأنه لم يرتد أحد من الصحابة بعده، وإنما ارتد قوم من جفاة الأعراب. (النهاية في غريب الحديث 2/214. لسان العرب 3/173).
وعليه، فإن المراد بارتداد الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وآله في تلك الأحاديث هو رجوعهم عن أهم الواجبات الدينية المنوطة بهم، وهي مبايعة الإمام علي عليه السلام بإمرة المؤمنين وخلافة رسول رب العالمين.
والذي يدل على أن ما قلناه هو المراد بالحديث ما رواه الكليني قدس سره في الروضة، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: كان الناس أهل ردة بعد النبي صلى الله عليه وآله إلا ثلاثة. فقلت: ومن الثلاثة؟ فقال: المقداد بن الأسود، وأبو ذر الغفاري، وسلمان الفارسي، رحمة الله وبركاته عليهم، ثم عرَف أناسٌ بعدَ يسير. وقال: هؤلاء الذين دارت عليهم الرحا وأبوا أن يبايعوا، حتى جاؤوا بأمير المؤمنين مكرَهاً فبايع، وذلك قوله تعالى: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ﴾. (روضة الكافي: 213-214).
فإن هذا الحديث واضح الدلالة على أن هؤلاء الثلاثة المذكورين بايعوا أمير المؤمنين عليه السلام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله، ولم يبايعوا غيره، إلى أن بايع مكرَهاً، فبايعوا بعده.
ومراده بقوله: «ثم عرَف أناسٌ بعدَ يسير» أن أناساً عرفوا أن أمير المؤمنين عليه السلام هو الأولى بالخلافة بعد وقت يسير.
ومما ينبغي التنبيه عليه أن صحاح أهل السنة اشتملت على جملة من الأحاديث الدالة على ردَّة زُمَر وأقوام من صحابة النبي صلى الله عليه وآله بعد وفاته.
ومن ذلك ما أخرجه البخاري عن أبي هريرة أنه كان يحدِّث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يرِد عليَّ يوم القيامة رهط من أصحابي، فيُحَلَّؤون [أي يطرَدون ويبعَدون] عن الحوض، فأقول: يا ربِّ أصحابي. فيقول: إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك، إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى. (صحيح البخاري 4/2058).
وعن أبي هريرة أيضاً، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: بينما أنا نائم إذا زمرة، حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم، فقال: هلُمَّ. فقلت: أين؟ قال: إلى النار والله. قلت: وما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدّوا بعدك على أدبارهم القهقرى. ثم إذا زمرة، حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم، فقال: هلُمَّ. قلت: أين؟ قال: إلى النار والله. قلت: ما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى. فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همَل النعم. (صحيح البخاري 4/2058).
قال ابن منظور: وفي حديث الحوض: «فلا يخلص منهم إلا مثل همل النعم» الهمل: ضوالّ الإبل، واحدها هامل، أي أن الناجي منهم قليل في قلة النعم الضالّة. (لسان العرب 11/710).
قلت: الظاهر أن الضمير المجرور في «فلا يخلص منهم» يعود على صحابته صلى الله عليه وآله، ولا يعود على خصوص المرتدين على أدبارهم؛ لأن هؤلاء المرتدين لا يخلص منهم أحد.
وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: يرِد عليَّ الحوض رجال من أصحابي، فيحلّؤون عنه، فأقول: يا ربِّ أصحابي. فيقول: إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك، إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى. (صحيح البخاري 4/2058).
وأخرج مسلم 4/1796 عن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا فَرَطكم([1]) على الحوض، ولأُنازَعَنَّ أقواماً ثم لأُغلَبَنَّ عليهم([2])، فأقول: يا رب، أصحابي أصحابي. فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك.
وأخرج البخاري - واللفظ له - ومسلم، عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله: إني فرَطكم على الحوض، من مرَّ عليَّ شرب، ومن شرب لم يظمأ أبداً، لَيَرِدنّ عليَّ أقوام أعرفهم ويعرفوني، ثم يحال بيني وبينهم.
قال أبو حازم: فسمعني النعمان بن أبي عياش، فقال: هكذا سمعت من سهل؟ فقلت: نعم. فقال: أَشهدُ على أبي سعيد الخدري لسمعته وهو يزيد فيها: فأقول: إنهم مني. فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فأقول: سُحقاً سحقاً لمن غيَّر بعدي. (صحيح البخاري 4/2058. صحيح مسلم 4/1793).
وهذه الأحاديث رواها حفَّاظ الحديث من أهل السنة بطرق كثيرة وبألفاظ متقاربة، فهي صحيحة عندهم، لا يشكون في صحتها.
والنتيجة أن الأحاديث الشيعية المذكورة لم يرد فيها أن جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله ارتدوا عن دينهم، وإنما رجعوا عما التزموا به من بيعة أمير المؤمنين عليه السلام، بخلاف الأحاديث التي رواها أهل السنة في صحاحهم، فإنها دلَّت على ارتداد «رجال» من الصحابة، أو ارتداد «رهط»، أو «زُمَر» أي جماعات، أو «أقوام» من صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله، وأنهم بدَّلوا وأحدثوا في دين الله، فكان مآلهم إلى النار.
فهل يرى القارئ المنصف وجهاً للمقايسة بعد ذلك؟