كونوا مع الصادقين
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة: 119].
1- تخصيص المؤمنين بالخطاب:
لا شك في أن التكليف في الآية المباركة شامل لجميع لمكلفين، المؤمنين منهم والكافرين، بناء على ما هو المعروف عند علماء الشيعة الإمامية من أن الكفّار هم أيضاً مكلفون بالفروع كما هم مكلفون بالأصول، والكون مع الصادقين إما من الأصول، أو من الفروع، وإنما كان الخطاب في الآية المباركة مخصوصاً بالمؤمنين إما تشريفاً لهم، لعلو رتبتهم على غيرهم، فاختصهم الله تعالى بالخطاب مع أن التكليف عام لهم ولغيرهم، وإما لأنهم هم المطيعون الممتثلون لأوامر الله تعالى، وأمر من لا يمتثل لغو وإن كان مكلفاً.
وإنما عبر سبحانه بقوله: (الذين آمنوا)، دون لفظ (المؤمنون) لأن الصيغة الأولى تدل على أن المخاطبين قد تحقق منهم الإيمان من قبل الخطاب، وأنهم ليسوا حديثي عهد بالإيمان، مضافاً إلى أن الفعل الماضي يدل على أن الإيمان واقع ومتحقق وثابت، لا يتغير ولا يتزلزل، فكما أن ما وقع في الماضي لا يمكن تغييره، فإن إيمانهم كذلك، ونظير ذلك تعبيرهم في الدعاء للميت بقولهم: ، فإنه أبلغ من قولهم: (يرحمه الله)، لفرضهم أن الرحمة قد حصلت وتحققت للمدعو له، بخلاف التعبير بقولهم: (يرحمه الله)، فإنه يدل على رجاء حصوله في المستقبل الذي يحتمل فيه الحصول، وعدمه.
2- الأمر بتقوى الله ومعنى التقوى:
تقوى الله تعالى هي الاستقامة على جادة الشريعة المقدسة، بامتثال أوامر الله الإلزامية وتجنب نواهيه التحريمية، فكل من أتى بما عليه من واجبات وترك جميع المحرمات فقد صار في زمرة المتقين.
والورع درجة أعلى من التقوى، لأنه تقتضي الإتيان بالآداب والمستحبات، وترك المكروهات، مضافاً إلى أداء جميع الواجبات، وترك كل المحرمات.
وإنما أمر تعالى بتقوى الله كمقدمة لما سيأتي وهو الكون مع الصادقين، باعتبار أن الكون مع الصادقين أمر صعب يحتاج إلى الاتصاف بالتقوى والاستقامة، وللدلالة أيضاً على عصمة الصادقين كما سيأتي نقله عن الفخر الرازي.
3- معنى الكون مع الصادقين:
ليس المراد بالكون معهم هو الاجتماع معهم في مكان واحد؛ لأن ذلك لا يترتب عليه أي ثمرة، لا في الدين ولا في الدنيا، بل لعل مساوئه أكثر من محاسنه.
وإنما المراد بالكون مع الصادقين هو اتباعهم، واقتفاء آثارهم، والتمسك بحبلهم، ونصرتهم، ومعونتهم في ما يريدون، وطاعتهم فيما يأمرون به، ونظير هذه المعية: المعية في قوله تعالى: (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ) [الفتح: 29].
فإن كافة المفسرين اتفقوا على أن المراد بالذين معه هم أصحابه المؤمنون به المتّبعون له.
قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ) [الممتحنة: 4]: (وَاَلَّذِينَ مَعَهُ) أَيْ وَأَتْبَاعه الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ. (تفسير القرآن العظيم 4/348).
وهناك فرق بين الكون مع الصادقين وبين التمسك بهم، فإن التمسّك بهم يصح حتى بعد وفاتهم، وأما الكون معهم فلا يكون إلا في حال حياتهم، فهو اتِّباع وزيادة، وهي النصرة والتأييد في كل القضايا الخارجية، لا مجرّد التمسّك بهم، وفي هذا دلالة على أن الصادقين موجودون في كل عصر كما سيأتي بيانه.
كما لا يراد هنا بالأمر هو الكون على طريقة الصادقين؛ لأنه خلاف ظاهر اللفظ، وصرف الفظ عن ظاهره بلا دليل أو قرينة غير صحيح.
قال الفخر الرازي: إنه عدول عن الظاهر من غير دليل. (التفسير الكبير 16/221).
4- أن كل عصر لا يخلو من واحد من الصادقين:
فلا بد من وجود واحد من الصادقين في كل عصر، فإن الخطاب الذي اشتملت عليه الآية المباركة وإن مخصوصاً بمن كان موجوداً في زمان نزول الآية المباركة، ولا يشمل من وُجدوا بعد ذلك؛ لأنه يقبح من الحكيم أن يخاطب المعدومين الذين لم يوجدوا في زمان نزول الآية المباركة، إلا أن قاعدة الاشتراك في الأحكام الشرعية والتكاليف الإلهية بين كل المسلمين في جميع الأعصار والأمصار تقتضي وجوب الكون مع الصادقين على كل من هو موجود في هذا العصر، ومتى وجب الكون معهم في هذا العصر دلّ على وجود بعضهم فيه، وإلا كان الوجوب سالباً بانتفاء موضوعه.
قال الفخر الرازي: إنه تعالى أمر المؤمنين بالكون مع الصادقين، ومتى وجب الكون مع الصادقين فلا بد من وجود الصادقين في كل وقت. (التفسير الكبير 16/220).
وقال أيضاً: إن قوله: ﴿كُونُواْ مَعَ الصادقين﴾ أمر بموافقة الصادقين، ونهي عن مفارقتهم، وذلك مشروط بوجود الصادقين، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فدلّت هذه الآية على وجود الصادقين. (التفسير الكبير 16/220).
فإذا عُلم بوجود واحد من الصادقين الذين أمرنا الله بالكون معهم في هذا العصر، فلا بد من معرفته؛ لأن معرفته مقدمة لأداء هذا الواجب تجاهه، ومقدمة الواجب واجبة، فتكون معرفة الصادق الذي يجب أن نكون معه واجبة.
لا يقال: إن هذه الآية لا تدل على ما عليه الشيعة الإمامية؛ لأنهم يقولون بوجوب الكون مع واحد من الصادقين في كل عصر، مع أن الآية دلت على وجوب الكون مع الصادقين، لا مع واحد منهم.
والجواب: أن الشيعة لا يقولون بوجوب الكون مع واحد من الصادقين فقط؛ لأنه يمكن للمؤمن أن يدرك عدة من الصادقين، فيجب عليه أن يكون معهم، ولذلك لم يقل سبحانه: (كونوا مع واحد من الصادقين)، فيجب على المؤمن أن يكون مع الصادق الذي يدركه، فإن مات وجب عليه أن يكون مع الصادق الذي يليه، وهكذا.
5- أن الصادقين معصومون:
ويمكن بيان ذلك بأمرين:
الأمر الأول: أن الأمر بالكون معهم مطلق، أي أنه لم يقيد بما إذا كانوا على حق أو صواب مثلاً، وهذا دليل على أنهم لا يخطئون، ولو كان احتمال الخطأ فيهم وارداً لما صح الأمر بالكون معهم مطلقاً، بل وجب أن يكون مقيداً بحال كونهم على الحق دون غيره.
الأمر الثاني: ما ذكره الفخر الرازي في تفسيره، حيث قال: إن قوله: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله﴾ أمر لهم بالتقوى، وهذا الأمر إنما يتناول من يصح منه أن لا يكون متقياً، وإنما يكون كذلك لو كان جائز الخطأ، فكانت الآية دالة على أن من كان جائز الخطأ وجب كونه مقتدياً بمن كان واجب العصمة، وهم الذين حكم الله تعالى بكونهم صادقين، فهذا يدل على أنه واجب على جائز الخطأ كونه مع المعصوم عن الخطأ حتى يكون المعصوم عن الخطأ مانعاً لجائز الخطأ عن الخطأ، وهذا المعنى قائم في جميع الأزمان، فوجب حصوله في كل الأزمان. (التفسير الكبير 16/221).
6- ما هو معنى الصادقين؟
لا شك في أنه ليس المراد بالصادقين الذين وقع منهم الصدق في الجملة؛ لأن ذلك متحقق في كل شخص، فما من امرئ إلا ويصدق في بعض الأحيان، حتى لو كان كذوباً، ولذا قالوا: (قد يصدق الكذوب).
كما أنه لا يراد بالصادقين من كثر صدقهم؛ لأن المخاطبين - وهم المؤمنون - كذلك، فلا فائدة في انضمام الصادقين إلى صادقين مثلهم.
وإنما المراد بالصادقين من كانوا صادقين في جميع أقوالهم وأفعالهم، فلا يخطئون، ولا يجهلون، ولا يسهون، ولا يكذبون، ولا يذنبون، وهذا معنى كونهم معصومين، وبذلك تترتب الفائدة على الكون معهم، من أجل العصمة عن الوقوع في الخطأ.
7- من هم الصادقون؟
اختلف المفسرون في ذلك على ثلاثة أقوال:
1- أن الصادقين هم صحابة النبي ، فالأمر بالكون مع الصادقين أمر بالكون مع النبي ومع آمن معه، ولا يراد بهم غيرهم.
وجوابه: أن التكليف في الآية ليس مخصوصاً بوقت خاص، ولو كان المراد بالصادقين خصوص الصحابة، لكان التكليف في الآية قد انتهى بموت آخر صحابي، وهذا فاسد، لاشتراك جميع المسلمين في كل التكاليف الواردة في كتاب الله العزيز.
قال الفخر الرازي: قوله: هذا الأمر مختص بزمان الرسول عليه الصلاة والسلام.
قلنا: هذا باطل لوجوه:
الأول: أنه ثبت بالتواتر الظاهر من دين محمد عليه الصلاة والسلام أن التكاليف المذكورة في القرآن متوجهة على المكلفين إلى قيام القيامة، فكان الأمر في هذا التكليف كذلك.
والثاني: أن الصيغة تتناول الأوقات كلها بدليل صحة الاستثناء... (التفسير الكبير 16/221).
2- ما ذهب إليه الفخر الرازي من أن المراد بالصادقين هم الأمة، والأمر بالكون معهم الأمر بالأخذ بالإجماع.
قال: نحن نعترف بأنه لا بد من معصوم في كل زمان، إلا أنا نقول: ذلك المعصوم هو مجموع الأمة، وأنتم تقولون: ذلك المعصوم واحد منهم، فنقول: هذا الثاني باطل؛ لأنه تعالى أوجب على كل واحد من المؤمنين أن يكون مع الصادقين، وإنما يمكنه ذلك لو كان عالماً بأن ذلك الصادق من هو، لا الجاهل بأنه من هو، فلو كان مأموراً بالكون معه كان ذلك تكليف ما لا يطاق، وأنه لا يجوز، لكنا لا نعلم إنساناً معيناً موصوفاً بوصف العصمة، والعلم بأنا لا نعلم هذا الإنسان حاصل بالضرورة، فثبت أن قوله: ﴿وَكُونُواْ مَعَ الصادقين﴾ ليس أمراً بالكون مع شخص معين، ولما بطل هذا بقي أن المراد منه الكون مع مجموع الأمة، وذلك يدل على أن قول مجموع الأمة حق وصواب ولا معنى لقولنا الإجماع إلا ذلك. (التفسير الكبير 16/221).
وفي كلامه ما لا يخفى من الضعف.
أولاً: أنه لا يصح أن تؤمر الأمة بأن تكون مع نفسها؛ لأنه لغو وعبث.
ثانياً: أن كلام الفخر الرازي الذي نقلناه آنفاً قد صرح فيه أن الله تعالى أمر من تقع منه المعاصي بأن يكون مع المعصوم من المعاصي، وكلامه هنا يتنافى معه؛ لأنه أمر مجموع الأمة المعصومة عنده بالكون مع مجموع الأمة، وهذا واضح الفساد.
ثالثاً: أن الآية المباركة تدل على وجود معصوم يجب الكون معه، ومن لا يعرفه يجب عليه البحث عنه، فلا يكون هذا من التكليف بالمحال.
رابعاً: أن الأمر بالكون مع الصادقين من أجل صيانة المؤمنين عن الوقوع في الخطأ، ولو كان المراد بالصادقين هو مجموع الأمة، والأمر هنا أمر بالأخذ بإجماعاتها، لما كان في الأمر بالكون مع الصادقين تلك الفائدة المطلوبة؛ لأن الأخذ بإجماعات الأمة لا يحل الخلاف؛ فإن المسائل المختلف فيها أكثر بكثير من المسائل المجمع عليها.
خامساً: أن المسائل المجمع عليها لا يحتاج فيها إلى الرجوع إلى الأمة، وإنما يحتاج المكلفون إلى من يرجعون إليه في المسائل المختلف فيها لمعرفة الحق فيها، ولا يمكن الرجوع إلى إجماعات الأمة في هذه الحالة لأن تلك مسائل الإجماع لا تحل الخلاف في غيرها.
3- هم أئمة أهل البيت عليهم السلام، وهذا هو الحق لأمور:
1- أنهم معصومون دون غيرهم، فإن الأمة قد أجمعت على عدم عصمة غيرهم، فإن كانوا هم أيضاً غير معصومين استحال امتثال الأمر في الآية بالكون مع الصادقين، إذ لا مصداق لهم، وهو باطل، فيتعين أن يكونوا هم المعصومين المعنيين في الآية.
2- أن هذه الآية تنسجم مع آيات أخر دالة على عصمتهم كقوله تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)، وقوله: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) التي اعترف الفخر الرازي بدلالتها على عصمة أولي الأمر، وغيرهما.
كما أن آية الكون مع الصادقين تنسجم مع أحاديث أخر دلت على أن أهل البيت عليهم السلام لا يفترقون عن الكتاب العزيز، مثل قول النبي صلى الله عليه وآله في الحديث الصحيح: (إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما فلن تضلوا بعدي أبداً، وإنهما لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض). والذي لا يفترق عن كتاب الله تعالى في قول ولا عمل فهو معصوم لا محالة.
3- أنه روي عن الأئمة الأطهار عليهم السلام أنهم هم المعنيون بالآية، ومن ذلك صحيحة ابن أبي نصر، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال: سألته عن قول الله عز وجل: ﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين﴾، قال: الصادقون هم الأئمة والصديقون بطاعتهم. (الكافي 1/208).
وعن بريد بن معاوية العجلي، قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول الله عز وجل: ﴿اتقوا الله وكونوا مع الصادقين﴾، قال: إيانا عنى. (الكافي 1/208).