التسليم لله ولرسوله (صلى الله عليه و آله وسلم)
قال تعالى: ) فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً( [النساء: 65].
ç نزول الآية:
قيل: إن الآية نزلت في الزبير ورجل من الأنصار ـ قيل: إنه حاطب بن أبي بلتعة ـ كان بينهما نزاع في سقي زرع لهما، فقال النبي للزبير: اسق ثم أرسل إلى جارك. فغضب الأنصاري، وقال: يا رسول الله لئن كان ابن عمتك. فتلون وجه رسول الله . قيل: ثم خرجا فمرا على المقداد، فقال: لمن كان القضاء يا أبا بلتعة؟ قال: قضى لابن عمته، ولوى شدقه، ففطن لذلك يهودي كان مع المقداد، فقال: قاتل الله هؤلاء، يزعمون أنه رسول الله ثم يتهمونه في قضاء يقضي بينهما. فنزلت هذه الآية.
ç معنى الآية:
(فلا وربك) هذا قسم من الله تعالى، والله سبحانه لا يقسم إلا على أمر عظيم، وقسمه سبحانه يدل على أن هذا الأمر حقيقة لا يمكن التشكيك فيها، (لا يؤمنون) أي لا يكونوا مؤمنين، أو لا يدخلون في الإيمان إلا بثلاثة أمور: الأول قوله: (حتى يحكموك) أي يجعلوك حكما لهم أو حاكما عليهم، (فيما شجر بينهم) أي فيما وقع بينهم من الخصومة، والتبس عليهم حكم الشريعة، لأن الشريعة تكفلت ببيان كل شيء، وما من قضية إلا ولله فيها حكم، وحكم الله هو الحق الذي لا يجوز تركه أو الاستخفاف به. والثاني: قوله: (ثم لا يجدوا في أنفسهم) أي في قلوبهم (حرجا) أي شكا فيما قلت، وقيل: ضيقا وعدم الرضا القلبي، (مما قضيت) أي من حكمك الذي حكمت بينهم، فلا بد من الانقياد الباطني لحكم الله ورسوله. والثالث: قوله: (ويسلموا تسليما) أي ينقادوا لحكمك إذعانا لك وخضوعا لأمرك، فيعملون بما قلت راضين مصدقين، وهذا هو الانقياد الظاهري لحكم الله وحكم رسوله.
وبهذا المعنى جاء قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) [النساء:59]
وجاءت أحاديث تدل على هذا المعنى، ففي صحيحة عبد الله الكاهلي قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: لو أن قوما عبدوا الله وحده لا شريك له، وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وحجوا البيت، وصاموا شهر رمضان، ثم قالوا لشيء صنعه الله أو صنعه رسول الله صلى الله عليه وآله: (ألا صنع خلاف الذي صنع)، أو وجدوا ذلك في قلوبهم لكانوا بذلك مشركين، ثم تلا هذه الآية: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما)، ثم قال أبو عبد الله : عليكم بالتسليم. [الكافي 1/390].
وعن أبي - جعفر ( ع ) في قول الله: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت، ويسلموا تسليما)، قال: التسليم: الرضا، والقنوع بقضائه. [ المحاسن ].
ç فوائد مستخلصة من هذه الآية المباركة:
(1) أن الشريعة متكفلة ببيان كل الأحكام، والشريعة أوضحت كل الحلول لكل المشاكل الاجتماعية، فإن كل قضية لله فيها حكم يجب على الأمة الرجوع إليه، وأنه لا يجوز الرجوع إلى الأحكام الوضعية ما دام لله حكم في القضية.
(2) أن أحكام البشر ليست هي الحل لمشاكل الأمة، جماعات وأفراداً. لأن واضع تلك القوانين رجال ، علموا شيئا وغابت عنهم أشياء، وهم لا يعلمون بالمصالح والمفاسد الواقعية، وإنما يتخرصون ويظنون، وهم في أحكامهم مترددون، واستبدال حكم الله بحكم الناس خطأ واضح، ولا يتحقق به إنصاف للمظلوم من الظالم، ولا يرجع الحقوق إلى أصحابها.
(3) أن الإيمان ليس قولا باللسان فقط، مع ارتكاب المخالفات الشرعية الكثيرة، وإنما هو إقرار باللسان، واعتقاد بالقلب، وانقياد بالجوارح، وكذلك الموالاة لأهل البيت لا تتحقق إلا باتباعهم في أقوالهم، والاقتداء بهم في أفعالهم.
وبهذا جاء الأحاديث عن أئمة أهل البيت فقد روي عن أبي جعفر الباقر : إنما شيعتنا من تابعنا ولم يخالفنا ومن إذا خفنا خاف ، وإذا أمنا أمن ، فأولئك شيعتنا ، وقال الله تبارك وتعالى : ( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ).
إلى أن قال: فقد فرضت عليكم المسألة والرد إلينا ، ولم يفرض علينا الجواب ، قال الله عز وجل: ( فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله )، يعني من اتخذ دينه رأيه بغير إمام من أئمة الهدى.
وعن الإمام الصادق أنه قال: شيعتنا أهل الهدى وأهل التقى وأهل الخير وأهل الإيمان وأهل الفتح والظفر.
وعنه قال: فإنما شيعة عليٍّ من عفَّ بطنه وفرجه، واشتدَّ جهاده، وعمل لخالقه، ورجا ثوابه، وخاف عقابه، فإذا رأيت أولئك فأولئك شيعة جعفر.
ومن الجناية على أهل البيت أن ينتسب إليهم من لا يتابعهم في أقوالهم وأفعالهم.
ç وهنا لا بد من التنبيه على أمور:
(1) أن بعض الشيعة لا يهمهم الحكم الشرعي بقدر ما يهمهم كسب القضية المتنازع فيها، ولذلك يرفضون التحاكم إلى علماء الشيعة ، ويلجؤون إلى الشرطة والمحاكم الرسمية، وهم يعلمون أن تلك المحاكم لا تحكم بحكم أهل البيت عليهم السلام، وإنما يحكم القضاة بحسب مذاهبهم.
(2) أن الواجب على كل موال لأهل البيت أن يتبع حكمهم سواء أكان له أو عليه، إلا أن بعضهم مع شديد الأسف ربما يلجأ إلى أهل العلم في بعض مشاكله الاجتماعية أو الأسرية، ولكن إذا حكم ضده رفضه، وإن حكم له رضي وقبل.
(3) أن بعض الشيعة يدخلون المرجعية الدينية في النجف الأشرف أو في قم المقدسة في بعض المشاكل الأسرية، مع أن علماء المنطقة بإمكانهم حل تلك المشاكل، لأن كل مشكلة لها حكم معلوم، ويمكنهم الاستنارة برأي المرجع من دون أن يقحم المرجع في القضية.
(4) ما دامت كل قضية لها حكم في الشريعة، فلا ينبغي أن تكون هناك مشكلة عالقة، ومتى ما بقيت مشكلة عالقة فاعلموا أن بعض الأطراف قد تجاوز الحكم الشرعي ورفضه بأي حيلة وبأي نحو.