آية المودة
قال تعالى: ) قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ( [الشورى: 23].
ç سبب نزول الآية:
ذكر في سبب نزول هذه الآية المباركة أن الأنصار أتوا رسول الله بمال جمعوه وقالوا: يا رسول الله، هدانا الله بك، وأنت ابن أختنا، وتعروك حقوق، وما لك سعة، فاستعن بهذا على ما ينوبك. فنزلت الآية، فردّه.
قلت: هذا هو المنسجم مع دلالة الآية المباركة، لأن المعروض عليه أجر على التبليغ، ولأن النبي كان يأمر المسلمين بأن يودوا قراباته ويتبعوهم، وأن المسلمين هم الذين يفترض منهم أن يمتثلوا هذا الأمر، وأنهم هم الذين سينتفعون به؛ لأن الفائدة من مودة القربى راجعة إليهم.
ç تفسير الآية المباركة:
اختلف في معنى الآية على أقوال متعددة:
1- قال ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، وأبو مالك، والشعبي، وغيرهم معنى الآية: لا أسألكم مالاً ولا رياسة، ولكن أسألكم أن ترعوا حق قرابتي وتصدقوني فيما جئتكم به، وتمسكوا عن أذيتي وأذية من تبعني.
2- قال الشعبي: أكثر الناس علينا في هذه الآية، فكتبنا إلى ابن عباس نسأله عنها، فكتب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أوسط الناس في قريش، ليس بطن من بطونهم إلا وقد ولده، فقال الله تعالى: قل لا أسألكم عليه أجراً إلا أن تودّوني في قرابتي منكم، فارعوا ما بيني وبينكم وصدقوني.
3- قال الحسن: المعنى إلا أن تتودّدوا إلى الله بالتقرّب إليه.
4- قال عبد الله بن القاسم: إلا أن يتودّد بعضكم إلى بعض وتصلوا قراباتكم.
5- قال ابن عباس: قيل يا رسول الله: من قرابتك الذين أمرنا بمودّتهم؟ فقال: عليّ وفاطمة وابناهما، وهو قول ابن جبير، والسدي، وعمرو بن شعيب.
6- أن المراد بهم مودة أهل البيت عموما، وقد استشهد بالآية عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب، حين سيق إلى الشام أسيراً.
وعن أبي جعفر في قوله تعالى: (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)، قال: هم الأئمة. الكافي 1/342.
çهل مودة القربى أجر لتبليغ الرسالة :
أولاً: أن أجر الرسالة ليس دنيوياً، وإنما هو أخروي، ولو كانت مودة القربى هي أجر الرسالة لكان أجرها دنيويا، ولو كان أجر الرسالة هو مودة القربى لما كان للنبي أجر أخروي، وهو باطل واضح البطلان.
وثانياً: أن الأنبياء قد أوضحوا أنهم ما سألوا أقوامهم أجراً على التبليغ، وأن أجرهم على الله تعالى.
فقال نوح عليه السلام: (فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [يونس: 72].
وقال هود عليه السلام: (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ * يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلاَ تَعْقِلُونَ) [هود: 50-51].
وقال صالح عليه السلام: (إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الشعراء:142-145].
وقد ورد مثل ذلك من قول لوط ، وشعيب عليهم السلام.
ثالثاً: أن النبي قد أوضح أن ما سأله من أجر هو راجع إلى الناس لا إليه، فلا يكون أجراً في الحقيقة.
قال تعالى: (قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [سبأ: 47].
ç وهنا لا بد أن نعرف أن الاستثناء على قسمين:
1- استثناء متصل: وهو ما إذا كان المستثنى من جنس المستثنى منه، كقولهم: (قام القوم إلا زيداً)، فإن زيداً من جنس القوم.
2- استثناء منقطع: وهو ما إذا كان المستثنى ليس جنس المستثنى منه، كقولهم: (قام القوم إلا فرساً)، فإن الفرس ليس من جنس القوم.
والاستثناء في آية المودة ليس استثناء متصلاً، فإن مودة القربى ليست أجراً، بل هي تكليف يراد حث الأمة على الالتزام به والحرص عليه، وهو مودة القربى واتباعهم. وهذا ما يعبر عنه في علم البلاغة بالمشاكلة، ويمثلون له برجل جاء إلى قوم فقالوا له: ماذا تريد أن نطبخ لك من الطعام؟ وهو أراد أن ينبههم إلى أن يحسنوا إليه بما هو محتاج له، مما هو أهم من الطعام والشراب، فقال: لهم اطبخوا لي جبة وقميصاً، أي خيطوا لي جبة وقميصاً.
قال الشاعر:
قالوا اقترح شيئاً نُجِدْ لك طبخه قال: اطبخوا لي جبةً وقميصا
وهنا لما أراد المسلمون أن يعطوا النبي أجراً على تبليغ الرسالة، جاء الجواب من الله تعالى لنبيه: قل لهم: لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى، أي أن أجري هو مودة قرابتي، فإن مودة قرابة النبي واجبة، وهي ليست أجراً لتبليغ الرسالة، ففي الحقيقة أن الآية تريد التركيز على وجوب مودة القربى، لا على قبول أجر للرسالة.
ç وجوب مودة أهل البيت عليهم السلام:
لقد اتفق المسلمون على وجوب مودة أهل البيت عليهم السلام سواء أدلت آية المودة على وجوب مودتهم عليهم السلام أم لم تدل، وذلك لورود الأحاديث الكثيرة الصحيحة الحاثة على لزوم مودة أهل البيت عليهم السلام.
منها: ما أخرجه الترمذي وحسنه عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيد حسن وحسين فقال: من أحبَّني وأحبَّ هذين وأباهما وأمهما كان معي في درجتي يوم القيامة. (سنن الترمذي ).
ومنها: ما أخرجه الترمذي وحسنه بسنده عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحبوا الله لما يغذوكم من نعمه وأحبوني بحب الله وأحبوا أهل بيتي بحبي. (سنن الترمذي ).
ç إلا أن الكلام هنا في أمرين:
¡ الأمر الأول: أن الحب والبغض أمران قهريان، غير اختياريين، فكيف يتعلق بهما التكليف؟
والجواب: أن الحب وإن كان قهرياً، إلا أن له أسباباً تسببه، وإذا علم المؤمن أن أهل البيت مرضيون عند الله وعند رسوله فإن ذلك سبب كاف لمحبتهم ومودتهم، فلعل النبي وآله قد أراد بحثه المسلمين على محبة أهل البيت عليهم السلام أن ينشئ فيهم سبب المودة لهم.
وإما أن الأمر بمحبتهم من أجل التحذير من التجاوز عليهم وإيذائهم، بسب، أو ضرب، أو قتل، أو محاربة، أو ما شاكل ذلك.
¡ الأمر الثاني: أن مودتهم عليهم السلام هل هي واجبة بالوجوب النفسي أو الوجوب الغيري؟
والمراد بالوجوب النفسي هو ما كان العقاب مترتباً على تركه، كالصلاة مثلاً، فإن من تركها ترتب العقاب على تركها. وأما الوجوب الغيري فهو ما كان العقاب مترتباً على ترك غيره، كالوضوء فإنه واجب بالوجوب الغيري، فمن تركه ولم يصلِّ عوقب على ترك الصلاة لا على ترك الوضوء.
والجواب: أن مودتهم وإن كانت واجبة إلا أن وجوبها من أجل اتباعهم واقتفاء آثارهم، فمن تركها ولم يتبعهم، عوقب على عدم اتباعهم، لأنه هو المقصود الأساس من فرض مودتهم. ومما قلناه يتضح أن من أحبهم ولم يتبعهم كان كمن توضأ ولم يصل، فإن وضوءه لا ينفعه بشيء.
وقد ظن بعض الناس أن الواجب هو محبة أهل البيت عليهم السلام من دون حاجة إلى اتباعهم، فوقعوا في الخطأ العظيم، ولا بأس أن أنقل للقارئ العزيز كلمة قالها الفخر الرازي في تفسيره ليتضح للقارئ ما فيها من الخلل والضعف.
ç شبهات و ردود:
قال الفخر الرازي: قوله (إِلاَّ المودة فِي القربى) فيه منصب عظيم للصحابة لأنه تعالى قال : (والسابقون السابقون أُوْلَئِكَ المقربون) [الواقعة: 10]، فكل من أطاع الله كان مقرباً عند الله تعالى فدخل تحت قوله (إِلاَّ المودة فِى القربى).
قلت: إن القربى هي القرابة، وهم آل النبي كما أوضحنا فيما تقدم، وأما المقربون فهو مأخوذ من القرب أي التقرب إلى الله تعالى، وبين الأمرين فرق واضح، فليس كل من تقرب إلى الله كان من القربى الذين تجب مودتهم، فالآية لا تدل على أي منقبة أو فضيلة أو منصب للصحابة، وإنما تدل على فضيلة لآل النبي .
¡ ثم قال الفخر الرازي: والحاصل أن هذه الآية تدل على وجوب حب آل رسول الله صلى الله عليه وسلم وحب أصحابه، وهذا المنصب لا يسلم إلا على قول أصحابنا أهل السنّة والجماعة الذين جمعوا بين حب العترة والصحابة.
قلت: إنا قد أوضحنا أن الواجب هو محبة أهل البيت عليهم السلام من أجل اتباعهم والتمسك بهم، ولا يراد بالمودة هنا مجرد الحب القلبي مع المخالفة في العمل، فحال من أحبهم ولم يتبعهم كما قلنا كحال من توضأ ولم يصل، فإن وضوءه حينئذ لا ينفعه بشيء. ثم إن الشيعة الإمامية قد جمعوا بين حب واتباع أهل البيت عليهم السلام ومحبة أجلاء الصحابة وعظمائهم، فتحقق لهم الأمران، وعدم محبتهم للمنافقين منهم لا يضرهم بل ينفعهم.
¡ ثم قال: وسمعت بعض المذكرين قال إنه صلى الله عليه وسلم قال: (مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح من ركب فيها نجا)، وقال صلى الله عليه وسلم: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم)، ونحن الآن في بحر التكليف، وتضربنا أمواج الشبهات والشهوات، وراكب البحر يحتاج إلى أمرين أحدهما: السفينة الخالية عن العيوب والثقب، والثاني: الكواكب الظاهرة الطالعة النيرة، فإذا ركب تلك السفينة ووقع نظره على تلك الكواكب الظاهرة كان رجاء السلامة غالباً، فكذلك ركب أصحابنا أهل السنة سفينة حب آل محمد، ووضعوا أبصارهم على نجوم الصحابة، فرجوا من الله تعالى أن يفوزوا بالسلامة والسعادة في الدنيا والآخرة. (التفسير الكبير 13/433).
قلت: ركوب سفينة أهل البيت عليهم السلام يتحقق باتباعهم والتمسك بحبلهم، لا بمجرد الحب لهم، لأن من أحبهم من دون أن يتبعهم كيف تتحقق له النجاة من النار؟
ثم إن حديث: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم)، حديث ضعيف ضعفه أعلام أهل السنة، فقد حكم الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة 1/144 بأنه موضوع، ونقل تضعيفه عن ابن عبد البر، وابن حزم، وأحمد بن حنبل.
ç معنى المودة في القربى:
لقد أورد الزمخشري صاحب «الكشاف» على نفسه سؤالاً، فقال: هلا قيل: (إلا مودة القربى)، أو (إلا مودة للقربى)، وما معنى قوله (إِلاَّ المودة في القربى)؟ وأجاب عنه بأن قال: جُعلوا مكاناً للمودة ومقراً لها، كقوله: لي في آل فلان مودة، ولي فيهم هوى وحب شديد، تريد أحبهم، وهم مكان حبي ومحله. (التفسير الكبير 13/433).