تلك أمة قد خلت
(تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (البقرة: 134).
شرح الآية:
(تلك أمة) تلك إشارة إلى الآية السابقة ، وهي قوله تعالى: (أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (البقرة:133).
والأمة تأتي في اللغة على عدة معان، منها:
1- الجماعة: كما في هذه الآية.
2- القدوة والإمام: مثل قوله تعالى: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل: 120).
3- الحين: مثل قوله: (وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ) (يوسف: 45).
4- أهل الملة الواحدة: مثل قولهم: أمة موسى، وأمة عيسى، وأمة محمد .
(قد خلت) أي مضت، (لها ما كسبت) الكسب هو العمل الذي يجلب به نفع أو يدفع به ضرر عن النفس. (ولكم ما كسبتم) أي لكم أعمالكم التي عملتموها.
و(لا تسألون عما كانوا يعملون) أي لا تسألون عن أعمالهم، ولا تحاسبون على معاصيهم، كما أنهم لا يحاسبون على أعمالكم، لأن الله تعالى يقول: (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) (الإسراء: 15).
استفادات مستخلصة من الآية المباركة:
1- أن الأبناء لا يؤاخذون بأفعال الآباء: ولهذا فإن المعروف من فتاوى العلماء أن ابن الزنا لا يؤاخذ بفعل أبويه، إلا أن بعضا من الأحكام تترتب عليه، كعدم صلاحيته للإمامة العظمى، حتى إمامة الصلاة، وما شاكل ذلك.
وما يردده بعضهم من أن ما يجري على العراقيين من البلاء إنما هو بسبب دعاء الإمام الحسين عليهم، بأن يفرقهم الله تفريقا، وأن يمزقهم تمزيقا، وألا يرضي الولاة عنهم أبدأ، وهذا غير صحيح، فإن الإمام دعا على الذين حاربوه، ولم يدع على من نسل منهم ممن لم يحاربوه، بل أحبوه ووالوه، وتبرؤوا من قاتليه.
كما أن صلاح الآباء لا يجعل الأبناء يتكلون على صلاح آبائهم، ما لم يعملوا ما ينجيهم ويكسبهم الأجر والثواب. نعم، ورد أن المرء يكرم في ولده، ولهذا وجب إكرام السادة الكرام من أجل رسول الله ، إلا أن الواجب عليهم ملازمة التقوى والعمل الصالح.
2- يمكن أن يستفاد من قوله تعالى: (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ) أنه لا ينبغي أن يذكر الموتى إلا بخير، للأمور التالية:
· ورد في بعض الأحاديث أن النبي قال: (اذكروا محاسن موتاكم، وكفوا عن مساويهم).
· ينبغي أن يذكر المؤمن بخير، وألا يذكر بسوء، وحرمته ميتا كحرمته حيا، وكما أنه لا تجوز غيبته حيا كذلك لا تجوز غيبته ميتا.
· أن ذكر الميت بسوء لا يضر بالميت بل ربما ينفعه، لأن الحي أكسبه ثوابا وأجرا بسبب قدحه فيه.
3- يجوز ذكر سوء أعمال الموتى إذا لم يكونوا مؤمنين، وكانوا أشراراً سيئين، لأنهم لا حرمة لهم ولا كرامة، ولكن ينبغي أن يكون ذكرهم بسوء لفوائد مهمة، منها:
· الاعتبار: فإن الله تعالى ذكر أحوال السابقين من أجل أخذ العبرة والفائدة، والاطلاع على سوء عاقبتهم، قال تعالى: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (الأنعام:11)، وقال سبحانه: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) (النمل:69)، وقال تبارك وتعالى: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ) (الروم:42).
ومن تأمل أحوال الملوك الماضين وما صاروا إليه حق له أن يعتبر بهم، لئلا يطغيه مال أو سلطان أو جاه، قال الشاعر:
باتوا على قلل الأجبال تحرُسُهم ...... غلبُ الرجالُ فلم تمنعهمُ القللُ
واستنزلوا بعد عز من معاقلهم ...... فاُسكنوا حُفرا يا بئس ما نزلوا
ناداهم صارخٌ من بعد ما دُفنوا ...... أين الأسرةُ والتيجانُ والحللُ
أين الوجوهُ التي كانت محجبة ...... من دونها تُضربُ الأستارُ والكللُ
فأفصح القبرُ عنهم حين ساءلهم ...... تلك الوجوهُ عليها الدودُ تنتقلُ
قد طال ما أكلوا دهرا وما شربوا ...... فأصبحوا بعد طول الأكل قد أُكلوا
وقال الشاعر:
في الذاهبين الأولين من القرون لنا بصائرْ
لما رأيتُ مواردا للموتِ ليس لها مصادرْ
ورأيتُ قومي نحوها يسعى الأصاغرُ والأكابرْ
لا يرجعُ الماضي ولا يبقى من الباقين غابرْ
أيقنتُ أني لا محالة حيث صار القومُ صائرْ
وذكروا أن ذا القرنين مر على شيخ يقلب جماجم الموتى، فقال له ذو القرنين: أيها الشيخ، لأي شيء تقلب هذه الجماجم؟ فقال: لأعرف الشريف من الوضيع، فما عرفت، وإني لأقلبها من مدة عشرين سنة.
· تمييز الحديث الصحيح من غيره: فإن النظر في الكم الكبير الموروث من الأحاديث يحتاج إلى النظر في أحوال الرواة:
o لأن الرواة نقلوا لنا الأحاديث والأخبار، فلا بد من معرفة أحوالهم وسيرهم، وإن استلزم ذلك القدح في بعضهم.
o لأن ترك النظر في سيرهم يستلزم عدم معرفة الصحيح من الضعيف، وبذلك يختلط الحق بالباطل.
o لأن الغاية من النظر في مساوئهم ليست شخصية خاصة بهم، بل متعلقة بأمر ديني مهم.
o أن دراسة أحوال صحابة النبي وصحابة الأئمة الأطهار من هذا الباب، ولا غرض مهم يتعلق بالقدح فيهم.
· معرفة أئمة الهدى من غيرهم: فإن دراسة أحوال من تدعى لهم الإمامة كافية في معرفة هل هم أئمة أو لا، وهذا له أثر بالغ في اختيار المذهب الحق من بين المذاهب المختلفة. ولو كانت المعرفة تتم بدون ذلك لكان هناك وجه لقول بعضهم: إن هؤلاء ماتوا، ووفدوا إلى ربهم، ونحن لا نحاسب على أفعالهم، فلماذا نبحث في أحوالهم، أو نقدح فيهم؟
· معرفة تاريخ الأمة: فإن التاريخ هو مجموع الحوادث الواقعة، بخيرها وشرها، وعدم النظر في أحوال الماضين يقتضي إلغاء التاريخ، وتكون هذه الأمة من دون تاريخ، وهذا غير صحيح، لأن أهمية التاريخ تكمن في الاستفادة من التجارب السابقة للأمة، وتصحيح ما يحتاج إلى تصحيح، وترك ما كان خطأ، سبب وقوع الأمة في المضار والمساوئ.