وابتغوا إليه الوسيلة [2]
قال تعالى: ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (. [المائدة: 35].
¡ قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا) خطاب من الله تعالى لخصوص المؤمنين مع أن التكليف بتقوى الله عام لهم ولغيرهم، لغرض التشريف للمؤمنين، أو لأنهم هم الذين يمتثلون أوامر الله تعالى.
وتقوى الله تعالى هي امتثال أوامره سبحانه، والانتهاء عن نواهيه، فمن عمل الواجبات وترك المحرمات فهو من المتقين.
¡ قوله: (وابتغوا إليه الوسيلة) شامل لكل ما يتوسل به سبحانه ويتقرب إليه تعالى به، سواء أكان عملا صالحا، أم التقرب بنبي أو ولي، وتقييد الوسيلة بأمور خاصة ، مثل العمل الصالح ، أو التوسل إلى الله تعالى بأسمائه وصفاته وأفعاله، وما شاكل ذلك ، تخصيص من غير مخصص.
وتقديم الأمر بالتقوى على ابتغاء الوسيلة مشعر بأن ابتغاء الوسيلة غير مجد من غير تقوى الله تعالى، وقد ورد في الشفاعة قريب من هذا المعنى، وهو قوله تعالى: (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى) [الأنبياء: 28].
ç إشكال وجوابه:
كثيراً ما يردد بعضهم إشكال حول التوسل بالأنبياء والأولياء وهو: لماذا لا تدعون الله مباشرة ، فهل الله تعالى لا يسمع النداء، وهل يحتاج الله إلى واسطة حتى يستجيب لخلقه، والله تعالى يقول: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) [غافر:60] ، فإن الله تعالى أمر عباده بدعائه، فلماذا يدعون غيره من الناس الذين لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضراً.
ç والجواب:
1- أن الله تعالى أمر عباده بدعائه، وضمن لهم الإجابة، إلا أنا وجدنا أن أكثر الناس يدعون الله تعالى ليل نهار، ويطلبون منه سبحانه حاجاتهم المختلفة، ولكنهم لا يجدون أي إجابة، ولعل كل واحد منا دعا ربه كثيراً إلا أنه ربما لم يستجب له دعاء واحد طول حياته.
ç فهل الله تعالى أخلف وعده، أم أنه كذب على خلقه؟
لا شك في أن الله تعالى لا يخلف الوعد، ولا يكذب، لأن خلف الوعد والكذب فعلان قبيحان لا يمكن صدورهما من الخالق جل وعلا، ولا يحتاج إلى خلف الوعد إلا الضعيف، أو المحتاج، أو العابث، أو فاعل القبائح، والله تعالى منزه عن كل ذلك.
ç إذن لماذا لم يستجب الله تعالى لكل هؤلاء الداعين؟
¡ عدم الاستجابة مسببة عن أحد أمور، منها:
1- إما لأنه سأل ما لا مصلحة له فيه، أو ما فيه مفسدة له أو لغيره، الفعل الذي طلبه العبد، كأن يطلب مالا، والمال يضره، أو يطلب إهلاك مؤمن، أو مخالف، ومصلحة التكليف تقتضي خلاف ذلك.
2- وإما لأن الداعي مُلأ بطنه من الحرام.
3- وإما لغير ذلك من الأمور التي ليس هذا موضع بيانها.
ومن أهم موانع الدعاء عن الاستجابة هو ارتكاب الذنوب، فإن الله تعالى لا يستجيب للعصاة المذنبين، وإنما يستجيب للمتقين الصالحين، ولهذا قال سبحانه: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ)[البقرة: 40]، فإن الناس عاهدوا الله تعالى على ألا يعبدوا إلا إياه، فقالوا: (إياك نعبد وإياك نستعين)، إلا أنهم لم يوفوا بما عاهدوا الله عليه، فعبدوا أهواءهم، وعبدوا الدنيا، والمال، والشهوات، والشيطان، والأحبار والرهبان، والسلاطين، وغير ذلك.
¡ قال الشاعر:
إني بُليتُ بأربعٍ ما ســـــــُلطتْ إلا لأجــــل شـقـاوتي وعنائي
إبليسُ والدنيا ونفسي والهوى كيف الخلاصُ وكلُّهـم أعـدائي
فإذا لم يوفوا بعهد الله في طاعته وعبادته دون غيره، فإن الله تعالى علق الوفاء بما عاهدهم عليه من الإجابة في قوله تعالى: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)، بوفائهم بما عاهدوه عليه.
ولذلك فإن المؤمن يدعو ربه ويتضرع إليه في الدعاء، فلا يجد إجابة، فماذا يصنع العبد في هذه الحالة، وهو يرى أنه من العصاة الذين لا يستجاب لهم، ويعلم أن الله تعالى قصر إجابته على من أطاعه ووفى بعهده.
ولأجل هذا فإن المؤمن يتوسل إلى الله تعالى بصفوة خلقه، الذين وفوا بعهده، وعبدوه دون سواه، وكان دعاؤهم لله تعالى مستجابا، مثل رسول الله وأهل بيته الطيبين الطاهرين الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.
والسبب في ذلك أن الله تعالى جعل نبيه رحمة للعالمين، فقال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء:107)، والعالمين هم الأنس والجن ، من الأولين والآخرين، ومنع التوسل برسول الله بعد موته يستلزم الاعتقاد بأنه لم يعد رحمة لله تعالى بعد موته، وإنما كان رحمة في حياته فقط، وهذا باطل ، وتقييد للآية المباركة من دون مقيد.
وأهل البيت عليهم السلام كذلك، فإن الله تعالى أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، ولهذا أخبر النبي بأن أهل بيته هم عدل الكتاب العزيز، فقال: (إني مخلف فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما فلن تضلوا بعدي أبدا، وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما).
ومن المهم أن نبين أن الله تعالى إذا فتح باب رحمة فإنه لا يغلقها، لأن رحمته تعالى وسعت كل شيء، ورحمته سبقت غضبه.
مع أن الله تعالى جعل دلائل للناس تدل على صدق أنبيائه وحججه في حياتهم وبعد موتهم، ولهذا جعل التوسل بهم سببا لاستجابة دعاء الداعي، ليعلم الناس أنهم أئمة حق يجب اتباعهم والتمسك بهم، دون غيرهم ممن لا ينفع التوسل بهم في شيء.
وقد قيل: إن جماعة أرادوا أن يفتعلوا كرامة لواحد من أصحاب المذاهب الأخرى، لما رأوا كرامات إمامنا موسى بن جعفر، فأمروا رجلاً يتظاهر بأنه مكفوف، ويأتي للقبر، ويبقى مدة يتوسل بصاحب القبر، ثم يفتح عينيه بزعم أن الله قد رد عليه بصره ببركة صاحب القبر، وفعلا ذهب هذا الرجل إلى القبر بالطريقة المخطط لها، ولما حان وقت فتح عينيه، رأى أنه لا يبصر، وأن الله تعالى قد أعماه بالفعل، فصار يصرخ قائلا: هؤلاء الكذا خدعوني، وطلبوا مني أن أتظاهر بأني مكفوف لكي نخدع الناس، والآن أنا لا أبصر..
وبهذا فضحهم الله تعالى، وكشف ما خططوا له.
ولهذا فإن فائدة التوسل ليست منحصرة في ما يحصل عليه المتوسل بالأنبياء والأئمة الأطهار عليهم السلام، وإنما هي عائدة إلى الأمة جمعاء، إذ يدل التوسل على أئمة الهدى دون غيرهم.
ثم إن التوسل بالنبي توسل بدعاء الحي، لأن النبي حي عند ربه يرزق، وكذلك أئمة أهل البيت ، لأن المتوسل يعلم أن الحاجات بيد الله تعالى، وأنهم وسائط لا أكثر. وعليه ، فلا فرق بين التوسل بالحي والتوسل بالميت ما دام الفاعل الحقيقي هو الله تعالى.
ولو سلمنا بأنهم أموات، لا يسمعون، ولا يستجيبون لمن توسل بهم، وأن الله تعالى لا يوصل إليهم كلام المتوسلين بهم، فإن توسل بهم المتوسل حينئذ لغو لا أكثر، ولا يكون شركا، أو عبادة لغير الله تعالى، كما لو توسلت بحي في قضاء حاجة، أو الإعانة في دفع شدة، ولكنه لم يسمع توسلك به، فلم يعنك في شيء.
هذا مع أن البخاري روى في الأدب المفرد: 261، بسنده عن عبد الرحمن بن سعد قال: خدرت رِجْل ابن عمر، فقال له رجل: اذكر أحب الناس إليك فقال: يا محمد.
وأوردها ابن تيمية في الكلم الطيب: 173، وهذا يدل على قبوله.
قال الألباني في تحقيق الكلم الطيب: فلعل تضمن الكتاب لتلك الأحاديث الضعيفة مع السكوت عنها، وفيها ما يبدو أنها منافية للتوحيد، والمؤلف حامل رايته، كحديث المناداة بيا محمد، مما حمل بعض الأفاضل على الكتابة إلي يسألني: هل صحت نسبة الكتاب إلى ابن تيمية رحمه الله تعالى. (الكلم الطيب: 55).
وروي عن أبي بكر بن أبي علي، قال: كان ابن المقرئ يقول: كنت أنا والطبراني، وأبو الشيخ بالمدينة، فضاق بنا الوقت، فواصلنا ذلك اليوم، فلما كان وقت العشاء حضرت القبر، وقلت: يا رسول الله الجوع، فقال لي الطبراني: اجلس، فإما أن يكون الرزق أو الموت. فقمت أنا وأبو الشيخ، فحضر الباب علوي، ففتحنا له، فإذا معه غلامان بقفتين فيهما شيء كثير، وقال: شكوتموني إلى النبي ؟ رأيته في النوم، فأمرني بحمل شيء إليكم. (ذكر هذه القصة ابن الجوزي في الوفا بتعريف فضائل المصطفى، ص470، والذهبي في تذكرة الحفاظ 3/974، وفي سير أعلام النبلاء 16/401، وفي تاريخ الإسلام 27/39).