تأملات في حادثة الإفك 4
قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْأِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [النور:11].
سبب نزول آيات الإفك:
روي في سبب نزول آيات الإفك طائفتان من الروايات:
1) الرواية الأولى: رواية عائشة المروية في صحيح البخاري 3/1484، وصحيح مسلم 4/2129، التي جاء فيها أن آيات الإفك نزلت في تبرئة عائشة مما قُذفت به من الزنا مع صفوان بن المعطل السلمي.
وهذه الرواية فيها تأملات من ناحية سندها، ومن ناحية متنها.
أما من ناحية سندها فإنها لم ترو إلا عن عائشة فقط، مع أن مثل هذه الحادثة التي نزلت فيها أكثر من عشر آيات من القرآن ينبغي أن تروى فيها رواية واحدة على الأقل عن صحابي آخر يوافق فيها عائشة في أنها هي المرأة المقذوفة بالزنا، ولكنا لم نر أي رواية من هذا النحو.
ولا شك في أن كل شخص يحق له أن يفتخر بأن الله تعالى أنزل فيه آيات من القرآن تتلى إلى آخر الدهر، فلا يمكن قبول أي ادعاء إلا إذا روي من طرف آخر لا يُتَّهم.
هذا مع أن رواية عائشة لفَّقها الزهري من مجموعة روايات يزعم أنها مروية عن عائشة، ولا ندري كم ضمنها من إدراجاته التي اشتهر بها.
قال الزهري: وكلهم حدثني طائفة من حديثها، وبعضهم أوعى من بعض، وأثبت له اقتصاصاً، وقد وعيتُ عن كل واحد منهم الحديث الذي حدثني عن عائشة، وبعض حديثهم يصدِّق بعضاً، زعموا أن عائشة قالت ... الخ.
وأما من ناحية متن الرواية ففيها إشكالات كثيرة، أهمها أنه ورد فيها أن سعد بن معاذ كان حاضراً في المسجد، مع أن حادثة الإفك حصلت في السنة السادسة من الهجرة، وسعد بن معاذ توفي في سنة أربع من الهجرة.
قال ابن حجر العسقلاني: قال عياض: في ذكر سعد بن معاذ في هذا الحديث إشكال، لم يتكلم الناس عليه، ونبَّهنا عليه بعض شيوخنا، وذلك أن الإفك كان في المريسيع، وكانت سنة ست فيما ذكر ابن إسحاق، وسعد بن معاذ مات من الرمية التي رميها بالخندق، فدعا الله، فأبقاه حتى حكم في بني قريظة، ثم انفجر جرحه فمات منها، وكان ذلك سنة أربع عند الجميع، إلا ما زعم الواقدي أن ذلك كان سنة خمس، قال: وعلى كل تقدير فلا يصح ذكر سعد بن معاذ في هذه القصة. (فتح الباري 8/580).
2) الطائفة الثانية: وهي عدة روايات تدل على أن المرأة المقذوفة بالزنا هي مارية القبطية رضوان الله عليها، منها:
1- ما أخرجه مسلم في صحيحه 4/2139 بسنده عن أنس: أن رجلاً كان يُتَّهم بأم ولد رسول الله ، فقال رسول الله لعلي: اذهب فاضرب عنقه. فأتاه علي فإذا هو في رَكِيٍّ ـ أي بئر - يتبرَّد فيها، فقال له علي: اخرج. فناوله يده فأخرجه، فإذا هو مجبوب ليس له ذكر، فكف عليٌّ عنه، ثم أتى النبي ، فقال: يا رسول الله إنه لمجبوب، ما له ذكر.
قلت: المراد بأم ولد رسول الله
هي مارية القبطية رضوان الله عليها؛ فإن النبي
لم تكن له أم ولد غيرها، والرجل الذي كان يُتَّهم بها هو ابن عمّها القبطي كما دلَّت عليه الروايات الأخرى.
قال ابن حجر في الإصابة 4/405، (ط. ج 8/311): ومن طريق عمرة عن عائشة قالت: ما غرتُ على امرأةٌ إلا دون ما غرتُ على مارية، وذلك أنها كانت جميلة جعدة، فأعجب بها رسول الله
وسلم، وكان أنزلها أول ما قدم بها في بيتٍ لحارثة بن النعمان، فكانت جارتنا، فكان عامة الليل والنهار عندها، حتى فزعنا لها، فجزعت، فحوَّلها إلى العالية، وكان يختلف إليها هناك، فكان ذلك أشد علينا.
وروى الحاكم في المستدرك بسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت : أهديت مارية إلى رسول الله ومعها ابن عم لها، قالت: فوقع عليها وقعة فاستمرت حاملاً، قالت: فعزلها عند ابن عمها، قالت: فقال أهل الإفك والزور: «من حاجته إلى الولد ادَّعى ولد غيره»، وكانت أمه قليلة اللبن، فابتاعت له ضائنة لبون، فكان يغذى بلبنها، فحسن عليه لحمه، قالت عائشة رضي الله عنها: فدخل به عليَّ النبي ذات يوم، فقال: كيف ترين؟ فقلت: من غذي بلحم الضأن يحسن لحمه، قال: ولا الشبه؟ قالت: فحملني ما يحمل النساء من الغيرة أن قلت: ما أرى شبهاً. قالت: وبلغ رسول الله ما يقول الناس، فقال لعلي: خذ هذا السيف، فانطلق فاضرب عنق ابن عم مارية حيث وجدته. قالت: فانطلق، فإذا هو في حائط على نخلة يخترف رطباً، قال: فلما نظر إلى علي ومعه السيف استقبلته رعدة. قال: فسقطت الخرفة، فإذا هو لم يخلق الله عز وجل له ما للرجال شيء ممسوح. (المستدرك 4/41).
والألباني ضعف هذه الرواية، وأنكرها أشد الإنكار في سلسلته الضعيفة.
قال: وللحديث أصل صحيح، زاد عليه ابن الأرقم هذا زيادات منكرة، تدل على أنه سيِّئ الحفظ جداً، أو أنه يتعمّد الكذب والزيادة؛ لهوى في نفسه، ثم يحتج بها أهل الأهواء. (سلسلة الأحاديث الضعيفة 10/701 ).
قال: وأشدها نكارة ما ذكره عن عائشة أنها قالت: ما أرى شبهاً! (نفس المصدر 10/702 ).
والظاهر أنهم إنما ضعفوا سليمان بن الأرقم الأنصاري، واتهموه بالزيادة المنكرة في الحديث؛ لأنه روى هذا الحديث لا غير.
وسليمان بن الأرقم لم يتفرَّد بهذه الزيادة، بل تابعه غيره، فقد روى ابن سعد في الطبقات الكبرى 1/137 هذا الحديث بهذه الزيادة عن محمد بن عمر (الواقدي)، عن محمد بن عبد الله، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة.
ورواه بالزيادة أيضاً ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني، ص 615: عن محمد بن يحيى الباهلي، عن يعقوب بن محمد، عن رجل سماه، عن الليث بن سعد، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة.
وأما الشيعة فإنهم اتفقت كلمتهم على أن المرأة المقذوفة هي مارية القبطية رضوان الله عليها، وعلى هذا دلت روايات متعددة.
منها: ما رواه السيد المرتضى قدس سره عن محمد بن الحنفية عن أبيه أمير المؤمنين قال: كان قد كثر على مارية القبطية أم إبراهيم في ابن عم لها قبطي، كان يزورها، ويختلف إليها، فقال لي النبي عليه الصلاة والسلام: خذ هذا السيف، وانطلق به، فإن وجدته عندها فاقتله. قلت: يا رسول الله، أكون في أمرك كالسكة المحماة، أمضي لما أمرتني، أم الشاهد يرى ما لا يرى الغائب. فقال النبي عليه الصلاة والسلام: بل الشاهد يرى ما لا يرى الغائب. فأقبلت متوشِّحاً بالسيف، فوجدته عندها، فاخترطت السيف، فلما أقبلت نحوه علم أني أريده، فأتى نخلة، فرقي إليها، ثم رمى بنفسه على قفاه، وشغر برجليه، فإذا إنه أجب أمسح، ما له مما للرجال قليل ولا كثير، فغمدت السيف، ورجعت إلى النبي فأخبرته، فقال: الحمد لله الذي يصرف عنا أهل البيت. (أمالي المرتضى 1/77).
ومنها: ما ورد في حديث المناشدة الذي رواه الشيخ الصدوق قدس سره في كتاب الخصال 2/563، أن أمير المؤمنين ، قال: نشدتكم بالله هل علمتم أن عائشة قالت لرسول الله
: إن إبراهيم ليس منك، وإنه ابن فلان القبطي، قال: يا علي اذهب فاقتله، فقلت: يا رسول الله إذا بعثتني أكون كالمسمار المحمى في الوبر أو أتثبَّت؟ قال: لا، بل تثبَّت، فذهبت فلما نظر إلي استند إلى حائط، فطرح نفسه فيه، فطرحت نفسي على أثره، فصعد على نخل، وصعدت خلفه، فلما رآني قد صعدت رمى بإزاره، فإذا ليس له شيء مما يكون للرجال، فجئت فأخبرت رسول الله
، فقال: الحمد لله الذي صرف عنا السوء أهل البيت.
قال الشيخ المفيد قدس سره حول هذا الحديث: والحديث مشهور، وتفصيله عند أهل العلم مذكور. فقال السائل: هذا الخبر عندكم ثابت، صحيح؟ قلت: أجل، هو خبر مسلَّم، يَصطلح على ثبوته الجميع. (رسالة حول خبر مارية: 18).
مرجِّحات رواية قذف مارية:
1- أن رواية قذف مارية لم ترو عن مارية نفسها، وإنما رُويت عن صحابة آخرين، منهم أنس بن مالك كما في صحيح مسلم، ومنهم: عائشة كما في المستدرك وغيره، وقد رواها الشيعة عن أمير المؤمنين ، وعن الإمام محمد بن علي الباقر والإمام جعفر بن محمد الصادق، والإمام علي بن موسى الرضا عليهم السلام.
مضافاً إلى أن هذه الرواية رواها الشيعة وأهل السنة جميعاً بأسانيد صحيحة، وبعبارات تكاد تكون متطابقة، وهذا يرجّحها على رواية عائشة التي لم ترو إلا عن عائشة، ورواها الزهري ملفقة من روايات متعددة كما قلنا.
2- أن قذف واحدة من زوجات النبي
ربما لا يقتضي نزول عشر آيات لتبرئتها؛ لأنه يكفي في الحكم ببراءتها إخبار النبي
بأنها بريئة، بخلاف نفي نسبة إبراهيم ابن رسول الله
له، وإلصاقه بالقبطي، ولا سيما أن النبي
لو أخبر الناس بأن مارية بريئة، وأن إبراهيم ابن له فإن أهل الإفك سيقولون: «من حُبّه للولد ادّعى ولد غيره» كما ورد ذلك في رواية عائشة، وأما تبرئة إحدى زوجاته، فإنه لن يكون متهماً في ذلك إذا شهد ببراءتها ونزاهتها.
3- أنه لم تكن هناك دواع مهمة لقذف عائشة بالزنا، ولا سيما أن عائشة ذكرت في حديثها أن الذين قذفوها هم بعض الصحابة، مثل حسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش، فكيف يمكن تصديق ذلك في حق صحابة عدول عاشوا في خير القرون كما يقول أهل السنة؟!
وكون عائشة جاءت على جمل يقوده صفوان بن المعطل لا يقتضي قذفها بالزنا، واتهامها بالفاحشة؛ لأن هذه الحال لا تقتضي عادة الاتهام بالزنا حتى في المجتمعات السيئة، فلم يرهما الناس في خلوة، أو في وضع مريب، بخلاف قذف مارية، فإن دواعي الغيرة بين نساء النبي
كانت متوافرة، ولا سيما أن عائشة كانت تصرِّح بغيرتها الشديدة في أكثر من حديث، مثل قولها بدافع الغيرة عن خديجة سلام الله عليها: ما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين، هلكت في الدهر، قد أبدلك الله خيراً منها. (صحيح البخاري 3/1168)، وكقولها للنبي
لما غارت من زينب بنت جحش: «إني أجد فيك ريح المغافير»، ودعتها غيرتها لأن تتواطأ مع حفصة على قول ذلك القول للنبي
كذباً وزوراً. (صحيح البخاري 3/1567).
فإذا كانت قد غارت من شرب النبي
عسلاً عند زينب بنت جحش رضوان الله عليها، أفلا تغار من إنجاب مارية ولداً لرسول الله
؟!
إشكالات على رواية قذف مارية:
1- أن النبي
أمر أمير المؤمنين بقتل جريح القبطي، مع أن القبطي بريء مما قذف به من الزنا، وقتل البريء لا يصدر من النبي
، وعليه فلا يمكن التصديق بهذه الرواية.
والجواب: أن النبي
لم يقتل القبطي، وإنما أمر أمير المؤمنين بقتله، وقال له: «يرى الشاهد ما لا يراه الغائب»، أي أن النبي
وإن أمر بحسب الظاهر بقتل القبطي، إلا أنه لما أمر أمير المؤمنين بالتثبت، فإنه يعلم أن القبطي لن يُقتل، وأن الله تعالى سيبين حقيقة الأمر، فلا إشكال في البين.
مع أن النبي
لو أخبر الناس أن جريحاً القبطي بريء مما قذف به، فإن أهل الإفك كما مرَّ سيشككون في كلام النبي
، وسيدَّعون أن حبّه للولد جعله يبرِّئ جريحاً، لكنه
لما أمر بقتله بحسب الظاهر أراد أن يثبت للناس براءته بما يقطع إرجاف المرجفين وقول الأفاكين، ولذلك أمر أمير المؤمنين بالتثبت في الأمر قبل قتله.
مع أن الأمر بقتل القبطي ورد في الرواية الشيعية والرواية السنية معاً، ولم يختص بالرواية الشيعية، ولهذا لم أجد من شكك في صحة الرواية لأجل ذلك من شراح صحيح مسلم كالنووي في شرحه 17/118، والقاضي عياض في إكمال المعلم بفوائد صحيح مسلم 8/308، وغيرهما.
2- أن حد الزنا ليس هو القتل، والنبي
أمر عليًّا بقتل القبطي، والقبطي إما بريء فلا يجوز قتله، وإما قد ثبت عليه الزنا، فإن حدَّه أن يُجلد مائة جلدة إن كان غير محصن، أو يُرجم بالحجارة إن كان محصناً، فكيف يأمر النبي
بقتله بالسيف؟!
والجواب: أنا أوضحنا أن النبي
لم يقتل القبطي بالسيف، وما صدر عن النبي
يمكن أن يكون له عدة محامل صحيحة.
منها: ما قلناه من أن النبي
لم يرد قتله، وإنما أراد إظهار براءته.
ومنها: ما ذكره القاضي عياض من أن القبطي لم يثبت أنه أسلم، وأن النبي
نهاه عن التحدث إلى مارية، فلما خالفه استحق بذلك القتل، إما للمخالفة، أو لتأذي النبي بسببه، ومن آذى النبي
بشيء ملعون كافر يستحق القتل. (إكمال المعلم 8/308).
مضافاً إلى أن هذا الإشكال ليس مخصوصاً بالرواية الشيعية فقط، بل إنه مذكور أيضاً في رواية صحيح مسلم، كما قلناه فيما سبق.
3- أن الله تعالى ذكر في آيات الإفك أن الذين جاؤوا بالإفك عصبة، والعصبة هي الجماعة، قيل: هم من ثلاثة إلى عشرة، وقيل: من عشرة إلى أربعين، وقيل غير ذلك. والرواية الشيعية في قذف مارية تدل على أن القاذف لمارية هي عائشة، والمرأة الواحدة لا يطلق عليها عصبة.
والجواب: أن الكلام إنما هو في المرأة المقذوفة، من هي؟ هل هي مارية القبطية رضوان الله عليها، أو أنها عائشة، وهذا الإشكال لا يرد على القول بأنها مارية؛ لأن العصبة هم الذين جاؤوا بالإفك، وكون الذين جاؤوا بالإفك عصبة، لا ينفي أن تكون المرأة المقذوفة هي مارية رضوان الله عليها، وهذا هو محل كلامنا.
مع أن العصبة الذين جاؤوا بالإفك يراد بهم من افتعل الإفك، ومن روَّج له وأذاعه بين الناس، وإلا فإن كل الأخبار إنما يفتعلها في البداية شخص واحد، ثم يقوم آخرون بإذاعتها، فيكونون شركاء فيها؛ لأن الوظيفة الشرعية في أمثال هذه الأمور هو كتمانها وعدم إشاعتها، ومن أشاعها فهو شريك فيها، ولهذا صح إطلاق العصبة على أهل الإفك.