هذه الرواية رواها البرقي قدس سره في المحاسن بسند فيه إرسال.
قال: (عن أبي عبد الله عليه السلام في رسالته إلى أصحاب الرأي والقياس:).
أصحاب الرأي هم الذين يقولون: قال الله ورسوله وأنا أقول، أي أنهم يفتون في دين الله بآرائهم وبحسب ما تمليه عليهم عقولهم، وأهواؤهم، من دون الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله.
وأصحاب القياس هم الذين يقيسون شيئا على شيء، فيتوصلون إلى بعض الأحكام بالقياس الذي جعلوه حجة في معرفة الأحكام الشرعية.
وأصحاب الرأي ظهروا في زمان رسول الله صلى الله عليه وآله، فإن بعض الصحابة كانوا يفتون في دين الله بآرائهم، بل كانوا يردون قول الله وقول النبي صلى الله عليه وآله ويأخذون بآرائهم، ولهذا قال بعضهم للنبي صلى الله عليه وآله: حسبنا كتاب الله.
وأما أصحاب القياس فإنهم ظهروا في زمان الإمام الصادق عليه السلام السلام، وكان رائدهم فيه أبا حنيفة النعمان، وقد حدثت بينه وبين الإمام الصادق عليه السلام حوارات في رد القياس.
منها: ما رواه القاضي النعمان في دعائم الإسلام عن الإمام جعفر بن محمد الصادق صلوات الله عليه أنه قال لأبي حنيفة وقد دخل عليه: يا نعمان، ما الذي تعتمد عليه فيما لم تجد فيه نصًّا من كتاب الله ولا خبراً عن الرسول صلى الله عليه وآله؟ قال: أقيسه على ما وجدت من ذلك، قال له: إن أول من قاس إبليس فأخطأ، إذ أمره الله عز وجل بالسجود لآدم عليه السلام، فقال: أنا خير منه، خلقتني من نار وخلقته من طين، فرأى أن النار أشرف عنصراً من الطين، فخلده ذلك في العذاب المهين، أي نعمان، أيهما أطهر المنى أم البول؟ قال: المنى، قال: فقد جعل الله عز وجل في البول الوضوء، وفى المني الغسل، ولو كان يحمل على القياس لكان الغسل في البول، وأيهما أعظم عند الله: الزنا أم قتل النفس؟ قال: قتل النفس، قال: فقد جعل الله عز وجل في قتل النفس شاهدين، وفي الزنا أربعة، ولو كان على القياس لكان الأربعة الشهداء في القتل، لأنه أعظم، وأيهما أعظم عند الله: الصلاة أم الصوم؟ قال: الصلاة، قال: فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وآله الحائض أن تقضى الصوم، ولا تقضى الصلاة، ولو كان على القياس لكان الواجب أن تقضى الصلاة، فاتق الله يا نعمان، ولا تقس، فإنا نقف غداً، نحن وأنت ومن خالفنا بين يدي الله، فيسألنا عن قولنا، ويسألكم عن قولكم، فنقول: قلنا: قال الله وقال رسول الله، وتقول أنت وأصحابك: رأينا وقسنا، فيفعل الله بنا وبكم ما يشاء. (دعائم الإسلام 1/91).
قوله: (أما بعد، فإنه من دعا غيره إلى دينه بالارتياء والمقائيس لم ينصف ولم يصب حظه).
أي أن من دعا غيره من الناس إلى دينه باستخدام الرأي والقياس لم يكن منصفاً لذلك الغير؛ لأنه دعاه إلى باطل، وغرر به، وأخبره بما ليس من الدين في شيء، (ولم يصب حظه) أي لم يحصل على نصيبه من الدين أو من علوم الدين، لأن ما أصابه ليس منه، وإنما هو من آراء الرجال التي هي بعيدة عن الدين، كما ورد في الحديث: إن دين الله عز وجل لا يصاب بالعقول الناقصة والآراء الباطلة والمقائيس الفاسدة... (كمال الدين وتمام النعمة: 324)، أو لم يصب حظه من ثواب دعوته، لأنه لم يدعه إلى حق، وإنما دعاه إلى باطل، فلا يكون مأجوراً عليه.
قال عليه السلام: (لأن المدعو إلى ذلك لا يخلو أيضاً من الارتياء والمقائيس، ومتى ما لم يكن بالداعي قوة في دعائه على المدعو لم يؤمن على الداعي أن يحتاج إلى المدعو بعد قليل؛ لأنا قد رأينا المتعلم الطالب ربما كان فائقا للمعلم ولو بعد حين، ورأينا المعلم الداعي ربما احتاج في رأيه إلى رأي من يدعو).
أي أن السبب في أن الذي يدعو غيره إلى دينه بالرأي والقياس لم ينصفه، هو أن المدعو أيضاً يمكنه أن يرى رأيه، وأن يقيس في دين الله تعالى، حاله حال من دعاه إلى دينه بالقياس، والداعي ربما لا يكون أعرف بالقياس من المدعو ولو بعد حين، وربما يكون المدعو أقوى عقلا، وأسد رأيا من الداعي، وحينئذ ربما يحتاج الداعي إلى رأي المدعو وإلى قياسه؛ لأنه كثيراً ما يتفوق الطالب على أستاذه ولو بعد مدة، وكثيراً ما يحتاج المعلم إلى رأي تلميذه إذا كان للتلميذ عقل راجح، وذكاء شديد، ورأي سديد، وفطنة كبيرة.
قال : (وفي ذلك تحير الجاهلون، وشك المرتابون، وظن الظانون).
أي أن الأمر إذا وصل إلى هذه الحالة، فتفوق المدعو على الداعي في الرأي والقياس، فقال كل واحد منهم برأيه وقياسه، فإن ذلك يستوجب تحير الجهال المتبعين لهؤلاء؛ لأنهم لا يعلمون أن الحق مع الداعي أو مع المدعو، ولا يدرون هل يتبعون هذا أو ذاك، وهل أن رأي هذا وقياسه أصح، أم رأي ذاك وقياسه، وهذا يوقعهم في مزيد من الحيرة والتردد.
كما أن حصول ذلك يستوجب وقوع الشك في دين الله عند أتباعهم الذين هم في الأساس مرتابون وشكاك بسبب ما يرونه في من يتبعونه من التخبط، وتغيير الرأي، والعدول من قول إلى قول، بحسب ما يراه ويقيسه.
وأما من لم يقع في الشك والريبة من هؤلاء الأتباع بسبب جهله المركب، فإنه سيقع لا محالة في الظن، ولا يمكن أن يحصل له الوثوق في دينه، والجزم بصحة طريقته؛ لأن متبوعه لم يكن كذلك، فكيف يحصل اليقين للتابع المقلد؟!
قال : (ولو كان ذلك عند الله جائزاً) أي أن الأخذ بالرأي والقياس لو جاز العمل بهما في دين الله تعالى (لم يبعث الله الرسل بما فيه الفصل)، أي لما كانت هناك حاجة لبعث الرسل وإرسال الحجج بالدين الحق الذي هو قول فصل لا خطأ فيه ولا باطل، (ولم ينه عن الهزل، ولم يُعِب الجهل)، فإن الأخذ بالرأي هزل وجهل، ولو كان الأخذ بهما جائزاً في دين الله لما نهى الله عن الهزل، ولما أعاب الأخذ بالجهل واتباع الجهال، ولكن الله تعالى لما نهى عن الهزل، وأعاب الجهل فإن ذلك يدل على أنه لا يجوز عنده تعالى أن يعمل الناس بالآراء والمقاييس، لأنها جهل فاضح، وهزل واضح.
قال : (ولكن الناس لما سفهوا الحق) أي رأوا أن الحق سفهاً وجهلاً وخطأ، وأن ما يرونه أفضل من الحق الذي جاء به الأنبياء والحجج عليهم السلام من عند الله تعالى، (وغمطوا النعمة)، أي أنهم استخفوا بنعمة معرفة الحق، واحتقروها، ولم يروا لها أي قيمة عندهم، ولذلك زهدوا في الحق، واتبعوا آراءهم وأهواءهم ومقاييسهم، (واستغنوا بجهلهم وتدابيرهم عن علم الله) أي أنهم استغنوا بآرائهم ومقاييسهم التي هي جهل واضح، عن الحق الذي هو علم من عند الله تعالى، الذي جاء به الأنبياء والحجج عليهم السلام، واستغنوا بما رأوه لأنفسهم من اتباع الباطل عما أراده الله لهم من الآخذ بالحق، (واكتفوا بذلك دون رسله والقوام بأمره) أي أنهم اكتفوا بآرائهم ومقاييسهم عما جاء به رسل الله والقائمون بأمر الله وهم الأئمة الأطهار عليهم السلام، فأخذوا بآرائهم وتركوا ما جاء به الرسل والحجج عليهم السلام، (وقالوا: لا شيء إلا ما أدركته عقولنا وعرفته ألبابنا)، أي أنهم اعتقدوا أن كل شيء لم تدركه عقولهم فهو لا شيء ولا قيمة له، وكل شيء جهلوه تركوه وإن كان حقا ومن عند الله تعالى، فإنهم أعداء ما جهلوا، (فولاهم الله ما تولوا، وأهملهم، وخذلهم حتى صاروا عبدة أنفسهم من حيث لا يعلمون) أي أنهم لما صنعوا ذلك، فاكتفوا بآرائهم، تركهم الله لآرائهم يعملون بها، ولم يمنعهم عنها بقدرته وإن كان قادراً على ذلك، حرمانا لهم من ألطافه وفيوضاته الربانية، وإهمالاً لهم عن أن يسبغ عليهم توفيقه وتسديده، فكان ذلك خذلانا منه لهم وتركاً لنصرتهم، (ولو كان الله رضي منهم اجتهادهم وارتياءهم فيما ادَّعوا من ذلك لم يبعث الله إليهم فاصلاً لما بينهم)، أي أن الله تعالى لو رضي بعملهم باجتهاداتهم واتباعهم لآرائهم وقياساتهم لما بعث إليهم أنبياء وحججاً بالحق الفاصل الذي لا شك فيه (لما بينهم) أي لما هو موجود بينهم من الآراء، ولكنه بعث للناس رسلاً يبينون لهم الحق، وينهونهم عن الأخذ بغيره مما جاؤوا به من عند أنفسهم، (ولا زاجراً عن وصفهم)، أي ولما أرسل الله لهم الرسل والأنبياء الذين يزجرون الناس وينهونهم (عن وصفهم) أي عما وصفوه وذكروه لغيرهم من العمل بالرأي والقياس.
قال : (وإنما استدللنا أن رضا الله غير ذلك ببعثة الرسل بالأمور القيمة الصحيحة)، أي أن الدليل على أن الله تعالى لم يرض بآراء الناس وقياساتهم هو أنه تعالى أرسل الأنبياء للناس بالحق وبما هو صحيح، ولو رضي بقياسات الناس وبآرائهم لاكتفى بها عن إرسال الرسل، (والتحذير عن الأمور المشكلة المفسدة)، أي لو رضي الله تعالى بالقياس لما حذر الناس عن الأخذ بما هو مشكل فاسد من أقوال الناس وآرائهم، ولكان له أن يجعل لهم فسحة في الأخذ بما شاؤوا، (ثم جعلهم أبوابه) أي أن الله تعالى جعل الأنبياء والحجج عليهم السلام أبواباً له، فمن أراد العلوم الإلهية والمعارف الشرعية فلا بد أن يأتي إليهم، ويأخذ تلك العلوم منهم، كما كان أمير المؤمنين باب مدينة علم النبي صلى الله عليه وآله، فمن أراد العلوم النبوية فعليه أن يأخذها منه سلام الله عليه دون سواه، (وصراطه) أي أن الله تعالى جعل الأنبياء هم الطريق إليه، فمن أراد الوصول إلى ساحة القدس الإلهية فعليه أن يتبع الأنبياء والحجج عليهم السلام، ويتمسك بهم، ويقتفي آثارهم، ويهتدي بهديهم، (والأدلاء عليه بأمور محجوبة عن الرأي والقياس) أي أن الله تعالى جعل أولئك الأنبياء والحجج أدلاء على الله، أي يرشدون الناس إلى دين الله القويم بما أوحاه إليهم من أمور الشريعة التي لا يستطيع أصحاب الرأي والقياس الوصول إليها؛ لأن أحكام الدين مبنية على تفريق المجتمعات وجمع المتفرقات، أي جمع المتفرقات في حكم واحد، وتفريق المجتمعات في أحكام مختلفة، وعليه فلا يمكن معرفة الحكم الشرعي إلا بالوحي الإلهي، (فمن طلب ما عند الله بقياس ورأي لم يزدد من الله إلا بعداً) لأنه لن يقدر على الوصول إلى حكم الله تعالى بعقله، فيبتعد عن الله تعالى، لأنه أخذ غير حكمه وعمل بغير شرعه، (ولم يبعث رسولا قط وإن طال عمره قابلا من الناس خلاف ما جاء به حتى يكون متبوعاً مرة وتابعاً أخرى) أي أن الله تعالى لم يبعث نبيا يأخذ بآراء الرجال، ويستعين بهم في دين الله، حتى لو طال عمره فإنه يستغني بالوحي عن عقول الناس وآرائهم، ومتى ما كان عنده علم بأحكام الله تعالى فإنه لا يأخذ من الناس ما كان مخالفاً لها، فيكون متبوعاً في بعض الأحكام، وتابعا للناس في بعض آخر، (ولم يُر أيضا فيما جاء به استعمل رأياً، ولا مقياساً، حتى يكون ذلك واضحاً عنده كالوحي من الله) أي أن كل أنبياء الله تعالى وحججه لا يستعملون آراءهم ولا قياسهم في دين الله، بحيث يرى النبي أن ما رآه برأيه لا يختلف في الجلاء والوضوح عما أوحي إليه من الله تعالى، والله سبحانه وتعالى بين في كتابه العزيز أن النبي صلى الله عليه وآله لا يقول إلى ما يوحي إليه، فقال: (وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى) [النجم: 3، 4]، وقال أيضا: (ولو تقول علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين) [الحاقة: 44-46]، (وفي ذلك دليل لكل ذي لب وحجى، أن أصحاب الرأي والقياس مخطئون مدحضون) أي أن ما ذكره الإمام عليه السلام دليل واضح يراه كل صاحب عقل أن أصحاب الرأي والقياس مخطئون في كل آرائهم وقياساتهم المخالفة لأقوال الأنبياء عليهم السلام، وأن حجة أصحاب الرأي والقياس مدحضة ضعيفة، فإنهم لا يستطيعون إثبات آرائهم بأدلة صحيحة، ولو كان بعضها صحيحاً لأخذ الأنبياء عليهم السلام بآراء الرجال وقياساتهم في بعض الأحيان، فلما تركوا كل رأي وقياس، دل ذلك على أنها كله باطلة وغير صحيحة، (وإنما الاختلاف فيما دون الرسل لا في الرسل) أي أن الاختلاف إنما وقع في الناس بعد الرسل، لأن الناس عملوا بآرائهم ومقاييسهم، فضلوا وأضلوا، وأما الرسل فليس بينهم خلاف، لأنهم كلهم جاؤوا بالحق من عند الحق جل وعلا، والحق واحد لا يتعدد ولا يختلف.
قال : (فإياك أيها المستمع أن تجمع عليك خصلتين:
إحداهما: القذف بما جاش بصدرك) أي فالحذر من أن تجمع بين أمرين سيئين: أحدهما أن تقول للناس في دين الله كل ما خطر ببالك ووقع في عقلك وإن ظننته حقا، (واتباعك لنفسك إلى غير قصد ولا معرفة حد) أي وأن تتبع نفسك وتأخذ برأيك (إلى غير قصد) أي من دون قصد، وهو الاعتدال، فلا تجعل رأيك قائدك في كل شيء حتى في دين الله وأحكامه، (ولا معرفة حد) أي من دون أن تجعل حداً للأخذ برأيك، فتجعل رأيك هو قائدك في كل شيء، (والأخرى استغناؤك عما فيه حاجتك) والصفة الثانية التي يجب عليك تجنبها هي أن تستغني عن أحكام الله تعالى التي جاء بها حججه، وتأخذ برأيك وقياسك، مع أن ما جاء به حجج الله هو ما تحتاج إليه، وأما غيره فلا، (وتكذيبك لمن إليه مردك) أي أن أخذك برأيك وترك ما جاء به الأنبياء عليهم السلام هو تكذيب لله تعالى الذي (إليه مردك) أي يجب أن يكون إليه رجوعك في دينك، أو الذي إليه رجوعك بعد موتك للبعث والحساب يوم القيامة، فيحاسبك على كل ما جرحت يداك، وهذا يجعلك لا ترد ما جاء من عند الله تعالى لأنك سوف تحاسب على ذلك حسابا عسيرا، (وإياك وترك الحق سآمة وملالة) أي احذر من ترك الأخذ بالحق بسبب السأم منه، والملل من العمل به، لأن الحق أحق أن يتبع، وأن الملل من الحق ليس عذراً في تركه، (وانتجاعك الباطل جهلاً وضلالة) أي إياك أن تطلب الباطل جهلاً منك بعواقب الأمور، وضلالة أي ميلا إلى الباطل، لأن ذلك له عواقب وخيمة ستصيبك لا محالة، (لأنا لم نجد تابعا لهواه جائزاً عما ذكرنا قط رشيدا) أي أننا لم نجد رجلا رشيداً عاقلاً قد تابع هواه، إلا وأخذ برأيه أو ترك الحق سآمة وملالة، (فانظر في ذلك) أي انظر ما هو الأصلح لك وما ينفعك، فخذ به، واترك ما يضرك ويرديك.
هذا ما فهمته من معنى هذا الحديث الشريف، فإن أصبت فهو من فضل الله تعالى، وإن أخطأت فهو من جهلي وقلة بضاعتي، والله أسأل التوفيق والتسديد للصواب، إنه جواد كريم، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.