وردت هذه العبارة في حديث رواه الكليني قدس سره في الكافي بسند ضعيف عن زيد الشحام، قال: دخل قتادة بن دعامة على أبي جعفر ، فقال: يا قتادة أنت فقيه أهل البصرة؟ قال: هكذا يزعمون. فقال أبو جعفر : بلغني أنك تفسر القرآن ؟ فقال له قتادة : نعم ، فقال له أبو جعفر : بعلم تفسره أم بجهل؟ قال: لا، بعلم، فقال له أبو جعفر : فإن كنت تفسره بعلم فأنت أنت، وأنا أسألك. قال قتادة: سل. قال: أخبرني عن قول الله عز وجل في سبأ: (وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياماً آمنين). فقال قتادة: ذلك من خرج من بيته بزاد حلال وراحلة وكراء حلال، يريد هذا البيت، كان آمنا حتى يرجع إلى أهله، فقال أبو جعفر : نشدتك الله يا قتادة، هل تعلم أنه قد يخرج الرجل من بيته بزاد حلال وراحلة وكراء حلال، يريد هذا البيت، فيقطع عليه الطريق، فتذهب نفقته، ويضرب مع ذلك ضربة فيها اجتياحه؟ قال قتادة: اللهم نعم، فقال أبو جعفر : ويحك يا قتادة، إن كنت إنما فسرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت، وإن كنت قد أخذته من الرجال فقد هلكت وأهلكت، ويحك يا قتادة ذلك من خرج من بيته بزاد وراحلة وكراء حلال، يروم هذا البيت، عارفاً بحقنا، يهوانا قلبه، كما قال الله عز وجل: (واجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم)، ولم يعن البيت فيقول: إليه، فنحن والله دعوة إبراهيم التي من هوانا قلبه قبلت حجته، وإلا فلا، يا قتادة فإذا كان كذلك كان آمنا من عذاب جهنم يوم القيامة، قال قتادة: لا جرم والله لا فسرتها إلا هكذا، فقال أبو جعفر : ويحك يا قتادة، إنما يعرف القرآن من خوطب به. (الكافي 8/311).
والمراد بقوله: (إنما يعرف القرآن من خوطب به) هو أن أهل البيت عليهم السلام هم العارفون بمعاني القرآن الكريم، المطلعون على أسراره، الذي علموا ظاهره وباطنه، ومحكمه ومتشابهه، وعامّه وخاصّه، ومطلقه ومقيده، ومبيَّنه ومجمله.
ولهذا فإن أئمة أهل البيت عليهم السلام كانوا إذا سُئلوا عن معاني آيات كتاب الله تعالى أجابوا بالحق، وقد اشتهر عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام أنه كان يقول: والله ما نزلت آية إلا وقد علمت فيما نزلت، وأين نزلت، وعلى من نزلت! إن ربي وهب لي قلبا عقولاً ولسانا طلقا. (الطبقات الكبرى لابن سعد 2/338).
وكان يقول: سلوني عن كتاب الله، فإنه ليس من آية إلا وقد عرفت بليل نزلت أم بنهار، في سهل أم في جبل. (نفس المصدر 2/338).
وأحاديثهم عليهم السلام التي رواها الشيعة التي يفصحون فيها عن معرفتهم بكتاب الله تعالى كله كثيرة.
منها: ما رواه الكليني قدس سره بسند صحيح عن بريد بن معاوية قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: (قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب)؟ قال: إيانا عنى، وعلي أولنا، وأفضلنا، وخيرنا بعد النبي صلى الله عليه وآله. (الكافي 1/229).
وعن أبي جعفر عليه السلام قال: ما يستطيع أحد أن يدَّعي أن عنده جميع القرآن كله ظاهره وباطنه غير الأوصياء. (نفس المصدر 1/228).
ولا يخفى عليكم أن النبي صلى الله عليه وآله قال في الحديث المتواتر الذي رواه الشيعة وأهل السنة في كتبهم: إني تاركٌ فيكم ما إنْ تمسَّكتم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يتفرَّقا حتى يرِدَا عليَّ الحوض، فانظروا كيف تخلِّفونّي فيهما. (سنن الترمذي 5/663. قال الترمذي: «هذا حديث حسن غريب». وصحَّحه الألباني في صحيح الجامع الصغير 1/482).
وأخرج أحمد في المسند، والحاكم في المستدرك، وصحَّحه ووافقه الذهبي عن زيد بن أرقم، قال: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من حجّة الوداع ونزل غدير خم، أمر بدوحات فقُمِمْن، فقال: كأني دُعِيتُ فأجبتُ، إني قد تركتُ فيكم الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر: كتاب الله وعترتي، فانظروا كيف تخلِّفوني فيهما، فإنهما لن يتفرَّقا حتى يرِدا عليَّ الحوض... (مسند أحمد بن حنبل 3/14، 26. المستدرك على الصحيحين 3/109. قال ابن كثير في البداية والنهاية 5/184: قال شيخنا أبو عبد الله الذهبي: هذا حديث صحيح).
وأخرج الحاكم في المستدرك أيضاً 3/109 عن زيد بن أرقم، عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: أيها الناس، إني تاركٌ فيكم أمرين لن تضلّوا إن اتَّبعتموهما، وهما كتاب الله وأهل بيتي عترتي...
وحديث الثقلين صحَّحه جمع من أعلام أهل السنة، منهم: الحاكم النيسابوري في المستدرك، والذهبي في التلخيص، وحسَّنه الترمذي في سننه كما مرّ، والبغوي في شرح السنة 14/119، ورمز له السيوطي بالصحة في الجامع الصغير 1/402، ووثق الهيثمي رجال الحديث في مجمع الزوائد 2/170، وقال 9/162: إسناده جيد. وقال البوصيري في مختصر إتحاف السادة المهرة 9/194: رواه إسحاق بسند صحيح. وصحَّحه ابن كثير في تفسير القرآن العظيم 4/113، وابن حجر العسقلاني في المطالب العالية 4/65، ابن حجر الهيتمي في الصواعق المحرقة: 145، 228، والألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 4/355 وصحيح الجامع الصغير 1/482، وغيرهم.
وهذا الحديث صريح في أن أهل البيت عليهم السلام لا يفترقون عن القرآن، وإذا كانوا كذلك فلا بد أنهم عليهم السلام يفهمون معانيه، ويعلمون مراميه، ويعرفون محكمه ومتشابهه، ولا يخفى عليهم منه شيء، لأنهم إذا جهلوا شيئاً من معانيه فلا بد أن يخالفوه في أقوالهم أو أفعالهم ولو عن غير قصد، وإذا خالفوه لا يصح أن يجعلهم النبي صلى الله عليه وآله علامة أخرى للحق مع كتاب الله العزيز، لأن النبي صلى الله عليه وآله لا يمكن أن ينصب للأمة علامتين للحق، إحداهما تخالف الأخرى، لأن جعل مثل ذلك يوقع الأمة في مزيد من الضلال والحيرة.
وحيث إنه لا أحد من الأمة قديماً وحديثاً ادعى أنه ملم بمعاني القرآن الكريم كلها، فإنه يصح قولنا: إنه لا يعرف القرآن إلا أهل البيت عليهم السلام.