التلبس بالجن
ع. أ. ح. - سيهات - 23/02/2011م
من المعروف أن قصص الجن تملأ أفكار الكثير من الناس، وقد سمعنا الكثير من هذه القصص، وهنا أود أن أسأل:
السؤال1: هل من الممكن أن يتلبس الجني بأي رجل؟
السؤال 2: إذا كان الجواب بنعم، فمن الذي يفصل في صدق من يدَّعي هذا الادعاء؟
السؤال 3: كيف يتم هذا التلبس؟ هل هو من داخل الجسم أم من خارجه؟

أرجو من سماحتكم إيضاح هذه المسألة؛ لأن الكثير من الناس يتخبطون بغير علم، بل ويسمح للمشعوذين والدجَّالين أن يبسطوا قوتهم في مجتمعنا.
الجواب

السؤال1: هل من الممكن أن يتلبس الجني بأي رجل؟

الجواب: نعم، هذا ممكن، بل واقع ومشاهد، والحوادث الكثيرة دلت على ذلك، وقد أشار إليه قوله تعالى: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ[البقرة: 275]، والله العالم.

 

السؤال 2: إذا كان الجواب بنعم، فمن الذي يفصل في صدق من يدَّعي هذا الادعاء؟

الجواب: القرائن الحالية هي التي تدل على أن هذا الرجل قد تلبَّس به الجان، وأن ذاك الآخر يخادع الناس، وهذه لا ضابطة لها، تعرف بالدلائل والقرائن الخارجية، كإخبار المصروع بأمور لا يعلم بها حال إفاقته، وتكلمه بلغة أخرى نحن نعلم أنه لا يجيدها، وأمثال ذلك.

 

السؤال 3: كيف يتم هذا التلبس؟ هل هو من داخل الجسم أم من خارجه؟

 الجواب: أن هذا أمر لا نعرفه؛ لأنه من أفعال الجان، ولم نجد من أفصح عن طريقة ذلك بحسب ما قرأت وبحثت، والله العالم.

 

أرجو من سماحتكم إيضاح هذه المسألة؛ لأن الكثير من الناس يتخبطون بغير علم، بل ويسمح للمشعوذين والدجَّالين أن يبسطوا قوتهم في مجتمعنا.

الجواب: أني كتبت في هذه المسألة تفصيلاً أكثر في جواب سابق، وإليك ما كتبته:

 

إن الناس قد اختلفوا في تلبس الجان بالإنسان، فذهب بعضهم إلى أن الجن لا سبيل لهم على الإنسان، فلا يصرعونه، ولا يصيبونه بسوء، إلا إلقاء الوساوس النفسانية فقط، وإلى هذا القول ذهب أبو علي الجبائي من علماء المعتزلة، واستدل عليه بأربعة أدلة:

 

أحدها: قوله تعالى حكاية عن الشيطان: (وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) [إبراهيم: 22]، وهذا صريح في أنه ليس للشيطان قدرة على الصرع والقتل والإيذاء.

 

ويردّه أن الآية المذكورة إنما تدل على أن الشيطان ليست له مقدرة على إكراه الناس على الغواية والضلالة، ولا تدل على أن الشيطان لا يقدر على الصرع والإيذاء بأي نحو.

 

والثاني: أن الشيطان إما أن يقال: (إنه كثيف الجسم)، أو يقال: (إنه من الأجسام اللطيفة)، فإن كان الأول وجب أن يُرى ويُشاهد، إذ لو جاز فيه أن يكون كثيفاً ويحضر، ثم لا يُرى لجاز أن يكون بحضرتنا شموس ورعود وبروق وجبال ونحن لا نراها، وذلك جهالة عظيمة، ولأنه لو كان جسماً كثيفاً فكيف يمكنه أن يدخل في باطن بدن الإنسان، وأما إن كان جسماً لطيفاً كالهواء فمثل هذا يمتنع أن تكون فيه صلابة وقوة، فيمتنع أن يكون قادراً على أن يصرع الإنسان ويقتله.

 

ويرده أنا نحتمل أن يكون الشيطان أو عموم الجن لهم أجسام لطيفة كالنار أو الهواء، ولا يمتنع بها أن تكون لهم قوة شديدة يصرعون بها الإنسان، فإن الهواء والنار يفعلان في الأجسام ما لا يفعله غيرهما من الأجسام الصلبة.

 

الثالث: لو كان الشيطان قادراً على أن يصرع الإنسان فيقتله، لصحَّ أن يفعل مثل معجزات الأنبياء، وذلك يجر إلى الطعن في النبوة.

 

ويرده أن المعجزة هي الأمر الخارق للعادة، وأما صرع الإنسان فليس كذلك، فمن كان قادراً على صرع الإنسان أو قتله لا يقدر بالضرورة على الأمور الخارقة للعادة كإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى، فلا يؤدي ذلك إلى الطعن في النبوات.

 

الرابع: أن الشيطان لو قدر على ذلك فلمَ لا يصرع جميع المؤمنين ولا يخبطهم من شدة عداوته مع أهل الإيمان؟ ولم لا يغصب أموالهم، ويفسد أحوالهم، ويفشي أسرارهم، ويزيل عقولهم؟ وكل ذلك ظاهر الفساد.

 

ويرده أن المصروع لما وصل إلى درجة شديدة من الضعف تمكَّن الجني من صرعه، إما بسبب خوف المصروع من ظلمة أو غيرها، أو بسبب ما ألقاه الجني فيه من الوساوس والخيالات، وحال الجني هنا حال بعض الناس الذين يتمكنون من قتل أو استضعاف بعض الضعفاء، ولا يتمكنون من قتل أو استضعاف غيرهم من الأقوياء أو ممن لا سبيل لهم عليهم.

 

وذهب آخرون إلى أن الجن يصرعون بعض الناس دون بعض.

قال الطبرسي قدس سره: قيل: يجوز أن يكون الصرع من فعل الشيطان في بعض الناس دون بعض. عن أبي الهذيل وابن الأخشيد، قالا: لأن الظاهر من القرآن يشهد به، وليس في العقل ما يمنع منه، ولا يمنع الله سبحانه الشيطان عنه امتحاناً لبعض الناس، وعقوبة لبعض على ذنب ألمَّ به ولم يتب منه، كما يسلط بعض الناس على بعض، فيظلمه ويأخذ ماله، ولا يمنعه الله منه. (مجمع البيان 2/206).

 

واحتج على ذلك بوجهين:

 الأول: ما روي من أن الشياطين في زمان سليمان عليه السلام كانوا يعملون الأعمال الشاقة على ما حكى الله عنهم: إنهم كانوا (يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ) [سـبأ: 13].

 

وردَّه الجبائي بأنه تعالى كثف أجسامهم في زمان سليمان ، فقدروا على كل ذلك.

 

وهذا ردٌّ غير صحيح؛ لأنه مضافاً إلى أنه لا دليل على أن الله تعالى قد غيَّر خلقة الجن في زمان سليمان ، فإن مقدرة الجني على الأفعال الشاقة ليست مرتبطة بكثافة جسمه، بل بقواه الباطنة التي أودعها الله فيه، كما أودع الله في الإنسان قواه المعروفة التي تمكَّن بها من غزو الفضاء، وتقريب المسافات، وعمل الأمور الكثيرة العظيمة.  

 

والثاني: أن هذه الآية وهي قوله تعالى: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ) [البقرة: 275]، صريحة في الدلالة على أن تخبّط الإنسان وإصابته بزوال العقل ربما يكون من الشيطان.

 

وأجاب الجبائي عنه: بأن الشيطان يمسّه بالوسوسة المؤذية التي يحدث عندها الصرع، وهو كقول أيوب: (أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ)، وإنما يحدث الصرع عند تلك الوسوسة، فلا جرم فيصرع عند تلك الوسوسة كما يفزع الجبان من الموضع الخالي، ولذلك لا يوجد هذا الخبط من الفضلاء الكاملين وأهل الحزم والعقل، وإنما يوجد فيمن به نقص في المزاج وخلل في الدماغ.

 

ويردّه أن كلامه هذا اعتراف بأن الجني يصرع الإنسان الضعيف، وهو يسلم بأن مقدرة الجني على صرع الإنسان إنما هي بسبب ما يحدثه في نفسه من الوساوس والمخاوف، وهذا عين ما قلناه آنفاً.

 

وقال بعضهم في توجيه قوله تعالى: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ): إن الناس يضيفون الصرع إلى الشيطان وإلى الجن، فخوطبوا على ما تعارفوه من هذا، وأيضاً من عادة الناس أنهم إذا أرادوا تقبيح شيء يضيفونه إلى الشيطان كما في قوله تعالى: (طلعها كأنه رؤوس الشياطين).  

 

وجوابه: أن الله تعالى لا تصدر منه الأباطيل لأجل كونها متعارفة عند الناس، وإذا كان الجني لا يصرع الإنسان حقيقة، فإضافة الصرع إليه بنحو الحقيقة كذب صراح لا يصدر من المولى سبحانه، ولهذا لا نجد في كتاب الله تعالى ذكراً لشيء من الأساطير الباطلة التي كانت متعارفة عند العرب، كذكر العنقاء والغول وما شابههما.

 

والمتحصل الذي أراه هو أن صرع الجن حقيقة، ويشهد بها كما قلنا ظاهر قوله تعالى: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ)، واتفاق كثير من الناس في كثير من البلاد قديماً وحديثاً على وقوعه ومشاهدته، ولو كان خرافة لما اتفق على وقوعها كل هؤلاء الناس الذين يمتنع تواطؤهم على الكذب، مع اختلاف ثقافاتهم، وتباين مذاهبهم، وتباعد بلدانهم، مضافاً إلى حصول النقل عن الثقات بوقوع مثل هذه الحوادث، فلا مجال لإنكارها، ولا معنى لتكذيبها، والله العالم.

 

الشيخ علي آل محسن