بين إفراط هؤلاء وتفريط أولئك!

 

مع تطور التعليم في بلادنا العزيزة وتعدد روافد الثقافة والمعرفة، وحصول الكثير من أبناء الوطن على شهادات جامعية، فإن حالة من الثقة المفرطة بالنفس والفهم قد صارت سمة بارزة عند كثيرين، بحيث صار بعض المثقفين وأنصاف المثقفين يقحمون أنفسهم في كل علم وفن، ويتكلمون في كل موضوع وشأن، وتطفل الكثير من هؤلاء على كثير من العلوم والفنون، كالطب، والدين، والسياسة، والاقتصاد، وغيرها، فتراهم يخوضون عباب كل مسألة تطرح في المجالس، ويتعصبون لآرائهم، ويسفهون آراء غيرهم بكل ثقة وشدة، حتى لو كان غيرهم من المتخصصين في ذلك المجال.

ومن الطبيعي أن يلاحظ المتخصِّص في هذه العلوم مقدار الخبط والخلط والجهل الذي يعاني منه هؤلاء الواثقون في أنفسهم، الذين يريدون أن يثبتوا أنفسهم بالدرجة الأساس، بغض النظر عن إثبات القول الصحيح في المسألة التي يقع فيها الكلام.

وعندما يُلجئ سوءُ الطالع واحداً من المتخصِّصين في العلوم الدينية مثلاً إلى الخوض في حوار مع واحد من أنصاف المثقفين الذين يظنون أنهم يفهمون الدين أكثر مما يفهمه العلماء والمجتهدون، يجد أن ذلك المسكين قد غابت عنه كثير من المسائل البديهية التي لا يتم الحوار من دون معرفتها والتسليم بها.

لقد ظن هؤلاء أنهم لما حصلوا على شهادات جامعية عالية بنظرهم، وأن علماء الدين لم يحصلوا على أمثالها، ظنوا أنهم يدركون ما لا يدركه أولئك العلماء في الأمور الحياتية والقضايا المعاصرة، بل وحتى في المسائل الدينية، ولو اطلع هؤلاء المساكين على الدراسات الحوزوية لوجدوها دراسات معمقة لا تقاس بها دراساتهم الجامعية، سواء أكانت تلك الدراسات في علوم اللغة العربية، أم في علم المنطق والفلسفة، أم في الفقه والأصول، أم غيرها، ولذلك تجد الحوزوي المحصِّل بارعاً في كثير من العلوم المذكورة، بخلاف غيره.

ولأجل هذه الثقة المفرطة في النفس أراد هؤلاء أن يفرضوا ولايتهم على المرجع نفسه، وأن يلزموا المرجع بالرجوع إليهم حتى في آرائه العلمية وفتاواه الفقهية، بل أقحموا أنفسهم في الخوض حتى في بعض الأمور التي ربما يوصف بعضها بأنها تخص المرجع نفسه!! ولذلك وجهوا سخطهم وسهامهم للمرجع الذي كان رأيه في تلك القضايا مخالفاً لآرائهم.

وفي قبال هؤلاء نجد فئة أخرى متدينة طيبة، تقدِّس المرجع، وتجلّه، وتعظمه، فتتعبد بفتاواه، وتأخذ بأقواله، وتقتدي به في أفعاله، وهذا سلوك محمود، ينبئ عن إيمان وتدين، ويكشف عن طهارة وطيب في السريرة، إلا أن الملاحظ هو أن بعض هؤلاء يريد من المرجع أن يشخص له كل أموره، ويود أن يقحم المرجع في كل صغيرة وكبيرة، ولذلك يستفتيه في قضايا داخلية لم يطلع عليها المرجع، ولم يلم بتفاصيلها، مع أن الأولى له أن يستفتي علماء البلد، فيستنير بآرائهم، ويستضيء بإرشاداتهم؛ لأنهم أعرف من غيرهم بملابسات كثير من الأمور المحلية، وأدرى بخصوصيات المنطقة.

وإذا كنا نرى أن المرجع ليس بمعصوم عن الخطأ، ولا بمنزه عن الزلل، لا في فتاواه وأرائه العلمية ولا في تشخيصاته الخارجية، فإن هذه النظرة لا تعني أنه يحق لغير المتخصصين أن يخطئوا المرجع في آرائه وفتاواه، أو أن نفرض وصايتنا على المرجع، فنسلبه حقه الطبيعي في التصرف والتشخيص في القضايا العامة وفي أموره الخاصة!!

كما أن اعتقادنا بأن المرجع له قداسة ينبغي صونها، ومكانة سامية لا تجوز المساومة عليها، لا يعني أنه يجب علينا أن نرجع إلى المرجع نفسه في تشخيص الموضوعات الخارجية، وأن مقلديه لا حق لهم في الاستقلال في تشخيص تلك القضايا. ولا ملازمة بين تقليد المرجع في فتاواه، وعدم العمل بتشخيصه في الأمور الحياتية، لأن التقليد إنما يجب في الأحكام الفقهية، لا في الموضوعات الخارجية، وعلى المكلف نفسه أن يشخص لنفسه، ولا غضاضة عليه حينئذ لو اختلف مع مرجعه في تشخيص أمر خارجي، واطمأن هو بتشخيصه، فإنه يجوز له العمل بتشخيصه دون تشخيص غيره.

ولا يخفى أن هناك فرقاً بيِّناً بين الاختلاف مع المرجع أو غيره في التشخيص، وهو حق مشروع لكل مكلف، وبين توجيه النقد اللاذع للمرجع أو غيره من العلماء وطلبة العلم، من أجل الاختلاف معهم في طريقة العمل الميداني في القضايا المعاصرة.  

فالحالة الوسط بين تفريط هؤلاء وإفراط أولئك هي أعدل الحالات وأصوبها، فلا يجوز لنا طرح بعض ما يقوله المرجع من فتاواه، والأخذ بخيالات نعتبرها ديناً نتعبد بها، ولا حاجة لأن نزعج المرجع ونشغله ليشخص لنا كل شيء من شؤوننا.