حلية الذبائح

مسجد إبراهيم الخليل (ع) في سيهات ـ محافظة القطيف.

 

قال تعالى في كتابه العزيز: )وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ).

 

حرمة أكل الذبائح التي لم يسمَّ عليها:

كلمة (لا) في قوله تعالى: (وَلاَ تَأْكُلُواْ) لا ناهية، والنهي هنا يدل على التحريم، فهذه لآية تدل على حرمة أكل ما لم يذكر اسم الله عليه عند الذبح.

وقوله تعالى: (مِمَّا) يراد به ما أحله الله تعالى من الذبائح، ولا يراد بذلك مطلق الذبائح كالسباع المحرمة الأكل من أسد أو ذئب أو فيل أو غير ذلك. فلو ذبح شخص أحد هذه الحيوانات المحرمة الأكل، وذكر اسم الله عليه فلا يفيد ذلك حلية الأكل منها؛ لأن ذكر اسم الله يختص بما أبيح من الذبائح التي بينتها السنة النبوية المطهرة.

ووجوب ذكر اسم الله لا يشمل المأكولات المباحة الأخرى من غير الذبائح، كالفواكه والخضروات مثلاً، فإن التسمية قبل أكلها مستحبة لا واجبة، وعدم التسمية عليها لا يجعلها محرمة.

 

كيفية التسمية:

لا يراد بقوله تعالى: (اسْمُ اللّهِ) خصوص لفظ الجلالة وهو (الله)، وإنما يشمل كل ما يدل على الذات الإلهية تبارك وتعالى، كـ (الرحمن) و(رب الكعبة) وغير ذلك.

كما أنه لا يراد بقوله تعالى: (اسْمُ اللّهِ) مجرد ذكر الاسم، كأن يكتفي أحدنا عند الذبح بذكر اسم الله تعالى مجرداً ، فيقول عند الذبح: (الله)، ولكن يجب أن يُذكر اسم الله عند الذبح مقروناً بالتعظيم، فيقال مثلاً: (الله أكبر)، (سبحان الله)، (بسم الله)، (بسم الله الرحمن الرحيم) وغيرها من صيغ التعظيم.

وربما يعتقد بعضهم أنه لا يصح أن يقال: (بسم الله الرحمن الرحيم) عند الذبح، ظناً منهم أن مقام الذبح يتعارض مع مفهوم الرحمة، ولكن ذلك لا يعدو كونه وهماً لا صحة له، والعلماء أفتوا بصحة ذلك، والمقام لا يتنافى مع كون الله رحيماً، لأنا لو سلمنا أن الذبيحة لم تُرحم حين ذبحها، إلا أن هناك الكثير من الفقراء والمساكين الذين يرحمون بإطعامهم من لحم تلك الذبيحة التي خلقها الله لذلك، وسخرها لعباده من أجل هذه الفائدة.

وقوله تعالى: (مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ) أي حال الذبح مقرونا به ومصاحباً له، لا بعد الذبح أو بعد موت الذبيحة، فذكر اسم الله على الذبيحة بعد أن تذبح لا يبيح أكلها.

وهنا يجب الالتفات إلى أن ذكر اسم الله على الذبيحة يجب أن يقصد به الذابح وجوب ذكر اسم الله على الذبيحة أثناء الذبح على نحو خاص، لا أن يكون القصد في ذلك هو التسمية من باب استحباب التسمية في جميع الأعمال بشكل عام على النحو الذي ورد في الخبر من «أن كل أمر ذي بال لم يُبدأ فيه باسم الله فهو أبتر»، كالتسمية عند الأكل، والشرب، والقراءة، والنوم، ونحو ذلك.

 

مسائل فقهية في الذبح:

مما يتعلق بموضوع الذبائح فقهياً، ما ينسب إلى الإمام الشافعي من القول بجواز أكل الذبيحة التي لم يُذكر اسم الله عليها ولو سهواً، بحجة أن الحرمة في الآية الكريمة حرمة تكليفية لا حرمة وضعية، بمعنى أن من ذبح ولم يسم فهو آثم فقط، أي أن الإثم إنما يقع على الذابح غير المسمي، دون ترتب أي أثر وضعي على الذبيحة عند عدم التسمية، فيحل الأكل منها.

لكن المعروف عند بقية فقهاء المذاهب الإسلامية الأخرى أن التحريم في الآية الكريمة تحريم وضعي، لا تحريم تكليفي، بمعنى أن الذابح لو لم يسمِ على الذبيحة حين الذبح فلا يأثم على ذلك إلا بعنوان آخر وهو إهدار المال وإتلافه بدون وجه حق، ولكن يحرم الأكل من هذه الذبيحة التي لم يسمَ عليها، سواء كان ترك التسمية عمداً أم نسياناً. فلو طُلب من أحد المسلمين أن يذبح شاة لكافر، فذبحها دون أن يسمي، فلا حرمة في هذا الفعل من الناحية التكليفية، ولكن يحرم أكلها على المسلم.

أما فقهاء الشيعة الإمامية، فالمعروف من فتاواهم جواز أكل الذبيحة التي تُرك التسمية عليها نسياناً لا عمداً. أما إذا كان الذابح جاهلاً بحكم وجوب التسمية عند الذبح، فلم يسمِ حين الذبح بسبب جهله بالحكم، فإنه يحرم أكل هذه الذبيحة حسب الرأي المشهور عند علماء الشيعة.

وقال تعالى: (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) بمعنى أن الأكل من الذبائح التي لم يذكر اسم الله عليها فسق، والفسق هو فعل المحرم أو ترك الواجب مع الالتفات إليهما، وبما أن الذبيحة التي لم يسم عليها يحرم  الأكل منها، فإن من يأكل منها يكون بذلك ارتكب فسقاً.

 

مغالطات في الذبائح:

نُقل أن الكفار كانوا يجادلون المسلمين، ويدَّعون أن الذبيحة حينما تموت من نفسها (الميتة) فإن الله هو من قتلها، فيثيرون شبهة مفادها: أن المسلمين لا يأكلون مما قتله الله، ولكن يأكلون مما قتله الناس، فبذلك يفضلون أنفسهم على الله جل وعلا.

وهذه مغالطة واضحة، لأن الله سبحانه وتعالى هو المميت، وهو قابض الأرواح، سواء ماتت الذبيحة بسبب ذبحها، أو ماتت بغير ذلك من الأسباب، فالموت واحد، والقابض واحد، وهو الله تعالى، وإن تعددت الأسباب وتباينت.

والفقهاء يوضحون ذلك بأن الأحكام الشرعية أحكام جعلية، بمعنى أن الله تعالى هو من جعلها، وأنها أحكام اعتبارية، لأن الله هو اعتبر هذا الفعل حراماً واعتبر ذاك حلالاً، فالله سبحانه وتعالى هو المشرع، ونحن نتبع ما يشرعه الله تعالى لنا، فنحن متبعون لا مبتدعون.

وهناك مغالطة أخرى يثيرها بعض المتأثرين بالغرب في هذا الزمان، حينما يقارن بعضهم بين الطريقة (الصحية) التي يتم بها ذبح الذبائح في البلدان الغربية باستخدام أدوات معقمة في الذبح مثلاً، وبين الطريقة (غير الصحية) التي يتم بها ذبح الذبائح في البلدان الإسلامية باستخدام سكاكين غير معقمة حين الذبح.

ومن الواضح أن اتباع طرق صحية حديثة لا مدخلية له في الأحكام الشرعية، فالشريعة لا تمنع من الأخذ بالوسائل الصحيحة والصحية في الذبح لكن بشرط أن يتم الذبح بطريقة شرعية صحيحة. فالشريعة لا تمنع من الذبح بسكين معقمة، مع أن عدم تعقيم السكين لا يسبب الحرمة في نفسه، إلا إذا انتقل إلى الذبيحة مرض يسبب ضرراً على المسلمين مثلاً، فحينئذ يحرم ذلك بعنوان الإضرار بالناس.

وقوله تعالى: (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ) يفيد بأن أئمة الكفر يحرضون أتباعهم على مجادلة المسلمين، وبث أفكارهم الفاسدة بين المسلمين، وإثارة الشبهات والمغالطات في الحلال والحرام.

ثم قال تعالى: (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ)، فبعد أن ميّز الله الذبائح المحللة من المحرمة، أوضح أن من يطيع أئمة الكفر وأتباعهم في الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه، فإنه قد أشرك مع الله سبحانه وتعالى عملاً وفي الطاعة التي يجب أن تكون لله وحدة، بمعنى أنه أخذ الأحكام الشرعية من الله ومن غير الله، وهذا شرك عملي وإن لم يكن شركاً في العقيدة.

 

الأكل من سوق المسلمين:

يرد هنا سؤال مهم، وهو: كيف نعرف أن هذه الذبيحة ذكر اسم الله عليها أم لا، وأنها محللة أو محرمة؟ وهل يحرم علينا الأكل من أي ذبيحة لم نسمع تسمية الذابح عليها حين ذبحها؟

لا شك أنه لو وجب ذلك لوقع الناس في العسر والحرج، وهذا مرفوع عن الأمة، ولما قام للمسلمين سوق، وهناك أمارات (أي علامات) وضعها الشارع المقدس لكي نحكم من خلالها على الذبيحة بحلية الأكل منها، ومن هذه الأمارات سوق المسلمين، فإن الذبيحة إذا ذبحها المسلمون وباعوها في أسواقهم، فإنه يجوز الأكل منها.

لكن أود التنبيه إلى مسألة مهمة، وهي أن أسواق المسلمين قد امتلأت بذبائح أهل الكتاب في هذا الزمان، حتى اختلط في أسواق المسلمين اللحم المذكى باللحم غير المذكى، وعندما نتفحص بعض المجتمعات غير الشيعية نجد أن أسواقها تكاد تكون خالية من الذبائح المذبوحة محلياً، وأن أغلب ذبائحها مستوردة من البلاد الكافرة؛ وذلك لأن الذبائح المستوردة أرخص ثمناً من الذبائح المذبوحة داخل البلاد.

أضف إلى ذلك أن غير الشيعة يذهبون إلى حلية ذبائح أهل الكتاب ، ولا فرق عندهم بين ذبائح أهل الكتاب وذبائح المسلمين، فإذا كان صاحب المطعم الذي يهدف إلى تحقيق أكبر نسبة من الربح، يرى حلية ذبائح أهل الكتاب، فإنه سيقدم للناس هذه الذبائح المستوردة؛ لأنه مضافاً إلى حليتها عنده فإن أسعارها كما قلنا أرخص بكثير عن أسعار الذبائح المحلية.

وعندما يأتي الشيعي ويسأل صاحب المطعم غير الشيعي عن حلية الذبائح المستوردة التي يبيعها فإنه من الطبيعي أن يجيبه بأنها حلال، ويؤكد له ذلك، وهو صادق فيما يقول؛ لأنه لا يرى حرمة ذبائح أهل الكتاب، مع أنها محرمة بحسب فتاوى فقهاء الشيعة؛ لأنها مما لم يذكر اسم الله عليه. فالسائل الشيعي حينما يريد أن يحرز حلية الذبيحة ينبغي له أن يسأل عن مكان ذبحها، لا عن كونها حلالاً أم حراماً.

وحينما يتعلق الأمر بمطاعم الشيعة من جهة أخرى، فمع الأسف لاحظنا أن كثيراً من المطاعم حتى لو كان صاحبها شيعياً فإنها أيضاً لا تراعي حلية الذبائح بالدرجة الأساس، وإنما يراعي أصحابها الربح أولاً وأخيراً، وأنت حينما تكون جاهلاً بحرمة الذبائح التي تقدمها هذه المطاعم، ويتظاهر صاحب المطعم بأنه يقدم اللحوم المحلية ، فإنه يجوز لك أن تأكل منها، وإن تبين لك بعد ذلك أنها ذبائح غير مذكاة، فلا إثم عليك.

 

الرخصة الشرعية والآثار السلبية للذبائح غير المذكاة:

هناك قضية مهمة أخرى ينبغي للعاقل أن يجعل لها اعتباراً، وهي الآثار الوضعية المترتبة على أكل الميتة أو الذبيحة غير المذكاة.

هل يحب أحدنا أن يصاب في بدنه أو في عقله أو في قلبه بضرر ناشئ من أكل الذبائح غير المذكاة؟

وهل يرغب أحدنا في أن يتنزع منه حب مجالس الذكر، أو أن تنتزع من قلبه الرغبة في قراءة الدعاء، وصلاة الليل، وإحياء ليالي القدر؟

إذا أردنا ألا نقع ضحية للآثار السلبية العديدة الناتجة عن أكل اللحوم غير المذكاة، فعلينا أن نتحرى المطاعم التي نأكل منها، وأن نحرز أنها تقدم لحوماً مذكاة ومحللة، وألا نكتفي بالترخيص الشرعي في كون المطاعم موجودة في سوق المسلمين، حتى وإن كانت في أكثر المدن قداسةً.