ما الذي استفاده الإمام الحسين من نهضته؟

 

 

من إشكالات بعض المخالفين للشيعة قوله: ما لذي استفاده الحسين رضي الله عنه من الخروج لكربلاء والموت هناك؟

إن قلت: «خرج ليثور على الظلم»، فسأقول لك: ولماذا لم يخرج أبوه علي بن أبي طالب على من ظلموه؟ إما أن الحسين أعلم من أبيه، أو أن أبيه [كذا] لم يتعرَّض للظلم، أو أن علي [كذا] لم يكن شجاعاً ليثور على الظلم؟

ولماذا لم يخرج أخوه الحسن على معاوية، بل صالحه، وسلمه البلاد والعباد، فأي الثلاثة كان مصيباً؟

 

الجواب: أن الإمام الحسين   لم يخرج إلى كربلاء لكي يستفيد أمراً دنيويًّا، وإنما خرج ليأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويدعو إلى الخير، ولهذا فإنه   نال رضا الله تعالى، وحصل على أعظم الأجر، وفاز بالشهادة، والدرجة العالية في جنات النعيم، كما ورد في بعض الأخبار أن النبي ( ) قال للإمام الحسين  : إن لك في الجنة درجات لا تنالها إلا بالشهادة. (أمالي الصدوق: 217، المجلس 30).

 

وأما الذي استفاده المسلمون من نهضة الإمام الحسين   إلى يوم القيامة، فهو أنه   فصل السلطة السياسية عن السلطة الدينية التي كان الخلفاء يتمتَّعون بها بعد وفاة رسول الله ، فصار الخليفة بعد نهضته المباركة مجرد حاكم سياسي، بعد أن كان كل خليفة حاكماً سياسيًّا، وحاكماً دينياً، يأخذ الناس منه معالم دينهم، كما هو حال عمر بن الخطاب الذي كان ينهى عن أمور عُلم ثبوتها في زمان رسول الله ، كنهيه عن متعة النساء، وعن إعطاء سهم المؤلفة قلوبهم وغير ذلك، ومع ذلك فإن الناس اتبعوه فيما قال وإن كان قوله مخالفاً لقول الله وقول رسوله ، فتحرفت أحكام الدين، ولم يبق شيء لم تطله يد التحريف كما دلت عليه أحاديث صحيحة عند أهل السنة.

 

منها: ما أخرجه البخاري في صحيحه بسنده عن الزهري أنه قال: دخلت على أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي، فقلت: ما يبكيك؟ فقال: لا أعرف شيئاً مما أدركتُ إلا هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضُيِّعتْ.

 

وفي رواية أخرى، قال: ما أعرف شيئاً مما كان على عهد النبي . قيل: الصلاة؟ قال: أليس ضيَّعتم ما ضيَّعتم فيها؟! (صحيح البخاري 1/133).

 

وأخرج الترمذي في سننه، عن أنس أنه قال: ما أعرف شيئاً مما كنا عليه على عهد النبي . فقلت: أين الصلاة؟ قال: أوَلم تصنعوا في صلاتكم ما قد علمتم؟ (سنن الترمذي 4/633، قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب).

 

وكم أتعجب من هذا المخالف الذي ينكر على الإمام الحسين   خروجه على يزيد الفاسق الفاجر المعلن بالفسق والفجور، ولا ينكر على عائشة خروجها ضد خليفة المسلمين الحق، مع أن الله سبحانه وتعالى قال في كتابه العزيز مخاطباً نساء النبي : (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) [الأحزاب: 33]، ومع ذلك فإن عائشة خرجت على الخليفة الحق شاقةً للطاعة، ومفارقة للجماعة، ومخالفة لأمر الله وأمر رسوله .

 

وأما الإمام الحسين   فإن الله ورسوله لم ينهياه عن الخروج للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنما أمراه بذلك، ويكفي من فوائد نهضته المباركة   ما أعقب مصرعه الشريف من النتائج العظيمة، التي منها سقوط المكانة الدينية عند المسلمين ليزيد ولكل سلاطين الجور الذين جاؤوا بعده، وصار المسلمون منذ ذلك الوقت إلى يومنا هذا ينظرون إلى الحكام والخلفاء على أنهم حكام سياسيون فقط، لا تؤخذ منهم معالم الحلال والحرام، بخلاف الخلفاء السابقين الذين كانت لهم سلطة دينية وسياسية، ولأجل ذلك لم يستطع الخلفاء الذين جاؤوا بعد يزيد من أن يغيروا شيئا في أحكام الشريعة، ولولا ذلك لقام باقي الخلفاء بتحريف كل أحكام الدين، وتبديلها، حتى لا يبقى منها شيء يذكر.

 

وأما سبب عدم قيام الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب   والإمام الحسن بن علي عليهما السلام ضد حكام عصرهم فلأن المصلحة كانت تقتضي ذلك، وكانا عليهما السلام أعرف بما تقتضيه المصلحة منا نحن، ولهذا عملا بما يمليه عليهما الواجب الشرعي، فموقفهما صحيح باتفاق الشيعة وأهل السنة، ولا سيما أن أهل السنة فتحوا باب الاجتهاد للصحابة على مصراعيه، فلنا أن نقول: إن أمير المؤمنين   وابنه الإمام الحسن   اجتهدا في مواقفهما، فإن أصابا كما هو الحق فلهما أجران، وإن أخطأا - وحاشاهما الخطأ - فلهما أجر واحد، فهما مأجوران على كل حال.

 

وأما قول المخالف: «ولماذا لم يخرج أبوه علي بن أبي طالب على من ظلموه؟... ولماذا لم يخرج أخوه الحسن على معاوية، بل صالحه».

 

فجوابه: أن زمان الإمام الحسين   مختلف عن زمان أمير المؤمنين   وزمان أخيه الإمام الحسن بن علي  ، وكل زمان له ما يناسبه، واختلاف المواقف لا يدل على خطأ أي منها؛ لأن اختلاف المواقف كان تبعاً لاختلاف الأحوال والملابسات، فإن يزيد بن معاوية كان فاسقاً فاجراً، متجاهراً بالفسق والفجور، بخلاف الخلفاء السابقين، فإنهم لم يتجاهروا بما تجاهر به يزيد.

 

وهذا ما أوضحه الإمام الحسين   بقوله: إنا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، وبنا فتح الله، وبنا ختم الله، ويزيد رجل فاسق شارب الخمر، قاتل النفس المحرمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله، ولكن نصبح وتصبحون، وننظر وتنظرون، أينا أحق بالبيعة والخلافة. (بحار الأنوار44/325).

 

وفي رواية أخرى رواها الشيخ الصدوق رحمه الله في أماليه، أن الإمام الحسين قال لوالي المدينة: يا عتبة، قد علمت أنا أهل بيت الكرامة، ومعدن الرسالة، وأعلام الحق الذي أودعه الله عزَّ وجل قلوبنا، وأنطق به ألسنتنا، فنطقت بإذن الله عزَّ وجل، ولقد سمعت جدي رسول الله ( ) يقول: «إن الخلافة محرَّمة على ولد أبي سفيان»، وكيف أبايع أهل بيت قد قال فيهم رسول الله ( ) هذا؟! (أمالي الصدوق: 216).

 

والإمام الحسن بن علي وإن سلم الأمر إلى معاوية إلا أنه لم يبايع معاوية خليفة على المسلمين، ولم يلزمه معاوية بالبيعة، بخلاف يزيد بن معاوية الذي طلب البيعة من الإمام الحسين  . 

 

هذا مع أن الإمام الحسين   لم يخرج ثائراً طالباً للحكم، وإنما خرج آمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر، لما استولى على الملك رجل متجاهر بالمنكرات، مستحل لحرمات الله تعالى، وهذا ما بيَّنه الإمام   بقوله: وأني لم أخرج أشراً، ولا بطراً، ولا مفسداً، ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي ، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب  ، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن ردَّ عليَّ هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين. (بحار الأنوار 44/329).

 

إلا أن القوم أرادوا إلزامه بالبيعة، أو القتل، والإمام أوضح ذلك، فقال: ألا إن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين: بين السلة والذلة وهيهات منا الذلة، يأبى الله ذلك لنا، ورسوله، والمؤمنون، وجدود طابت، وحجور طهرت، وأنوف حمية، ونفوس أبية، من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام. (لواعج الأشجان: 131).

 

ومما يدل على أن الإمام الحسين   كان مصيباً في نهضته أن النبي أخبر الناس قبل قتل الإمام الحسين   بأكثر من خمسين سنة بأنه   مقتول في كربلاء لا محالة، وروايات أهل السنة في هذا  المضمون كثيرة.

 

منها: ما أخرجه الإمام أحمد في المسند أن النبي قال: لقد دخل عليَّ البيت ملَك لم يدخل عليَّ قبلها، قال: إن ابنك هذا حسين مقتول، وإن شئت أريتك من تربة الأرض التي يُقتل بها، قال: فأخرج تربة حمراء. (مسند أحمد 6/294).

 

قال الهيثمي في مجمع الزوائد 9/187: رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح.

 

ومنها: ما أخرجه أبو يعلى والبزار والطبراني وغيرهم عن نجي الحضرمي أنه سار مع علي رضي الله عنه، وكان صاحب مطهرته، فلما حاذى نينوى وهو منطلق إلى صفين، نادى علي: اصبر أبا عبد الله، اصبر أبا عبد الله بشط الفرات. قلت: وما ذاك؟ قال: دخلت على النبي ذات يوم وإذا عيناه تذرفان، قلت: يا نبي الله أغضبك أحد؟ ما شأن عينيك تفيضان؟ قال: بل قام من عندي جبريل   قبل، فحدثني أن الحسين يُقتل بشط الفرات، قال: فقال: هل لك أن أشمك من تربته؟ قلت: نعم. قال: فمد يده، فقبض قبضة من تراب، فأعطانيها، فلم أملك عيني أن فاضتا.

 

قال الهيثمي في مجمع الزوائد 9/187: رواه أحمد، وأبو يعلى، والبزار، والطبراني، ورجاله ثقات، ولم ينفرد نجي بهذا.

 

وأخرج ابن عساكر في تاريخ دمشق أن النبي خطب الناس ذات يوم فقال: ألا وإن جبريل قد أخبرني بأن أمتي تقتل ولدي الحسين بأرض كرب وبلاء، ألا فلعنة الله على قاتله وخاذله إلى آخر الدهر. ثم نزل عن المنبر، ولم يبق أحد من المهاجرين والأنصار إلا واستيقن أن الحسين مقتول.

 

إلى غير ذلك من الروايات الصحيحة المستفيضة، التي رواها أهل السنة والشيعة، وصحَّحها حفاظ الحديث من أهل السنة، والتي تدل بوضوح على أن النبي كان يصحِّح موقف الإمام الحسين   في نهضته؛ وذلك لأنه إذا كان خروج الإمام الحسين   مفسدة أو خطأ أو لا فائدة فيه كما يزعم ابن تيمية وغيره، فإن النبي الذي أخبر صحابته بأن الحسين   يُقتل بأرض تسمَّى كربلاء، لا بد أن ينهى الإمام الحسين عن الخروج، أو يأمر أصحابه بمنعه عن الخروج إلى كربلاء، إلا أنه لم يرد في أي حديث من تلك الأحاديث نهي منه عن ذلك، ولم يقل النبي أي كلمة تشعر بكراهته لقيام الإمام الحسين   وخروجه.

 

وبعض الأحاديث التي تضمنت أنه بكى على الإمام الحسين   وأبكى الناس عليه، تدل على أن خروجه   كان صحيحاً عند رسول الله ، بل فيه منفعة عظيمة للدين ومصلحة جليلة لعامة المسلمين، ولولا ذلك لما بكاه النبي مراراً قبل وقوع هذه الحادثة بسنين كثيرة.

 

وحديث نجي الحضرمي المتقدم ذكره آنفاً، ورد فيه قول أمير المؤمنين  : «اصبر أبا عبد الله، اصبر أبا عبد الله بشط الفرات»، وهذا دليل واضح على أن أمير المؤمنين   أيضاً كان لا يرى أي خطأ أو مفسدة في خروج الإمام الحسين  ، بل كان   يحث ابنه الإمام الحسين   على المضي في ذلك، ويأمره بالصبر على ما يصيبه من البلاء والقتل.

 

وإني أتعجب كثيراً ممن يخطئ الإمام الحسين   في نهضته مع اعترافه بأنه أحد سيدي شباب أهل الجنة كما دلت عليه الأحاديث المتواترة، التي نصَّ جملة من حفاظ الحديث من أهل السنة على تواترها.

 

فإذا كان الإمام الحسين   أحد سيدي أهل الجنة فكيف يمكن اتهامه بأنه فرَّق المسلمين، أو شقَّ عصا الطاعة، أو أنه خرج على إمام زمانه، أو طلب ما ليس له بحق، أو ما شاكل ذلك من الأباطيل التي لا يرتكبها آحاد المؤمنين.

 

ثم إن من يشق عصا الطاعة أو يفسد في بلاد المسلمين يجب قتله، فلو كان الإمام الحسين   شاقـًّا لعصا الطاعة الواجبة، أو مفسداً في بلاد المسلمين لوجب قتله، فكيف يمكن أن يكون   سيِّد شباب أهل الجنة وواجب القتل في نفس الوقت؟!

 

وهذا كله يدل بما لا يدع مجالاً للشك على أن نهضة الإمام الحسين   كانت نهضة صحيحة مباركة، وأن كل الإثارات التي تقال في تخطئته دوافعها أموية بحتة.