حقيقة التبشير المذهبي الشيعي

 

مع توسع العلوم في عصرنا الحاضر وانفتاح الثقافات المختلفة على بعضها البعض، وتطور وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، وسهولة وصول كل أحد إليها، صار انتقال الثقافات وتلاقح الأفكار من الأمور السهلة اليسيرة.

ومن الطبيعي أن تتبدل بسبب ذلك كثير من الرؤى والقناعات في مختلف المواضيع المتشعبة التي تثار في وسائل الإعلام المختلفة، وأن يصل كثير من الباحثين والمثقفين المنصفين إلى قناعات مرضية في كثير من المواضيع التي كانت محل أخذ ورد منذ قرون عديدة.

ولعل الخلافات المذهبية هي أكثر المسائل إثارة في كل عصر، وهي المسائل التي تشد اهتمام أكثر الناس، وكل الخلافات الإنسانية تتوهج فترة معينة ثم تبلى عند كثيرين، إلا هذه الخلافات فإنها لا تبلى، بل تتجدد بتجدد الأيام.

وتزداد هذه المسائل إثارة عندما يتحول بعض أتباع أحد المذاهب إلى مذهب آخر؛ لأن كل واحد من هؤلاء المتحولين له قصة مثيرة أو شيقة.

وظاهرة التحول المذهبي صارت واضحة في عصرنا الحاضر بسبب احتدام الحوارات المذهبية في الإنترنت وغيرها، ولذلك سمعنا بدخول أعداد كبيرة في كثير من البلدان العربية والإسلامية كمصر، والشام، والمغرب، والسودان، والأردن، وفلسطين، وغيرها، في مذهب الشيعة الإمامية، حتى صار الوجود الشيعي في هذه البلدان ظاهرة غير قابلة للإنكار بعد أن كانت أكثر تلك الدول لا تعرف واحداً منها منتمياً إلى المذهب الشيعي.

ومثل هذا التحول في اختيار المذهب لا ينبغي أن يقابل بالسخط، ولا بأي نوع من الإنكار والشجب؛ لأنه يعبر عن قناعة راسخة عند هؤلاء المتشيعين، جعلتهم يتخذون القرار الصعب في التحول عن المذهب الموروث إلى مذهب آخر، وجدوا أن اتِّباعه هو المبرئ لذممهم، وكل مكلف له الحق في اختيار المذهب الذي ينسجم مع قناعاته، من غير إلزام من أحد بضرورة الأخذ بقناعات الآخرين، خصوصاً إذا كان اختيار المذهب الجديد قد وقع بعد بحث طويل، وحوارات كثيرة، وقراءات متأنية لكثير من الكتب الخلافية للأطراف المختلفة.

والغريب في الأمر هو ادعاء البعض أن تحول هذا العدد من أتباع مذهب أهل السنة إلى مذهب الشيعة الإمامية إنما هو بسبب (التبشير الشيعي) الذي تموله الحكومة الإيرانية بأموال طائلة، وبسبب ما يقدَّم إلى هؤلاء المتشيعين من حوافز مادية مختلفة.

والجميع يعلم أن الحكومة الإيرانية بريئة من مثل هذه الاتهامات، وأن كل المتشيِّعين لم يتلقوا أموالاً من أحد؛ ومثل هذه الأمور لو حصلت لشاعت وانتشرت، ولوجدنا الكثيرين الذين رفضوا هذه العروض يُدلون بشهاداتهم ضد من يبذل لهم هذه الأموال للدخول في التشيع.

هذا مع أن جملة من هؤلاء المتشيعين قد دونوا قناعاتهم في كتب مطبوعة ومتداولة، وأوضحوا الأسباب التي دعتهم للعدول عن مذاهبهم السابقة واختيار مذهب أهل البيت عليهم السلام، وكانت كل دوافعهم دينية بحتة، لم يشبها شيء من المنافع الدنيوية.

وفي الوقت الذي يمارس هؤلاء الساخطون على هذه الحالة حريتهم الكاملة في الترويج لمذاهبهم، ويرحبون بكل من انتمى إليها من أتباع المذاهب الأخرى، ولا يرون فيما يقومون به أي منافاة لأي مبدأ من مبادئ الإسلام، بل يطلقون لفظ (الدعوة) على ما يقومون به لمحاولة إقناع الآخرين بمذاهبهم، فإنهم يصفون الدعوة إلى مذهب أهل البيت عليهم السلام بالتبشير الشيعي، ويسمّون حالة انتشار التشيع في البلاد الإسلامية بالأخطبوط الشيعي، أو المد الشيعي، أو الغزو الشيعي للمجتمعات السنية، أو ما شاكل ذلك.

وقد خرج في هذه الأيام من يردِّد أنه لا يحق للشيعة أن يروجوا لمذهبهم في البلاد السنية، معللاً ذلك بأنه يثير الفتنة في تلك البلاد، وهو كلام مردود بأن كل من يرى أنه صاحب حق يجوز له أن يدعو لمذهبه الحق في أي مكان، ولا يحتاج إلى أخذ الإذن من أحد ليجعل له حقاً في ذلك، والدعوة إلى الله تعالى لا حدود لها، ولا حق لأحد في حصرها في بلاد دون بلاد، وكل بلاد المسلمين لله تعالى، لا أحد أولى بها من أحد.

ثم إن الدعوة إلى مذهب الشيعة الإمامية في هذا العصر كثيراً ما تتم بوسائل مختلفة، كالانترنت والفضائيات والكتب وغيرها، وهي لم تتم بالدعوة المنظمة في البلاد السنية، ليقال: إن ذلك يثير فتنة تنشأ من تصادم الدعاة مع بعضهم البعض.

فإذا اختار هؤلاء المتشيعون مذهب الشيعة، فلا حق لأحد في منعهم من اختيار المذهب الذي ارتأوه لأنفسهم، لأنه لا حق لأحد في أن يحجر على العقول، أو يمارس الوصاية الفكرية على الناس، ولا أن يمنع الآخرين من اختيار مذهبهم أو تشكيل آرائهم وقناعاتهم، ما دام هذا الاختيار قد تم بالدليل التام بنظر ذلك الشخص، وعلى أساس علمي ليس غير.

ولا ينقضي العجب من قول بعضهم: (إن هؤلاء المتشيعين سيشكلون أقلية في البلاد السنية، وسيطالبون بحقوقهم، وهذا سيحدث فتنة)، فإن هؤلاء المتشيعين لهم الحق في أن يعطّوا كافة حقوقهم كما أن ذلك حق لغيرهم، والشيعة لا يطالبون بأكثر من أن يعاملوا في بلادهم كمواطنين من دون أي تمييز طائفي. ومع أن الشيعة في كل أنحاء العالم لم يعطوا كافة حقوقهم، فإنهم لم يثيروا فتنة، ولم يحدثوا بلبلة، وحاولوا الحصول على بعض حقوقهم عبر القنوات الرسمية، لا بالعنف، ولا بالإرهاب.

نسأل الله تعالى أن يصلح أمور المسلمين، وأن يوحد كلمتهم، إنه سميع مجيب، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.