معرفة قدر السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام

كلمة ألقيت في مجلس السيد الكبير بالدمام، ليلة 20 جمادى الآخرة 1435هـ

 

روى فرات بن إبراهيم الكوفي (قدس سره) في تفسيره المعروف بـ (تفسير الكوفي) عن أبي عبد الله الصادق أنه قال: «من عرف قدر فاطمة فقد أدرك ليلة القدر، وانّما سُمّيت فاطمة لأن الخلق فُطموا عن معرفتها».

في هذا الحديث الشريف فوائد نستعرض بعضاً منها.

معرفة قدر فاطمة:

قوله : «من عرف قدر فاطمة»: فيه حث وتأكيد على عظم ثواب معرفة قدر السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام؛ لأن إدراك ليلة القدر من الأمور المندوب إليها المؤكد على استحبابها؛ لاشتمالها على ثواب كثير لا يمكن إدراكه بطرق العبادة المتعارفة.

فما هو قدر فاطمة؟

لا شك في أن رسول الله صلى الله عليه وآله والأئمة الأطهار عليهم السلام قد أوضحوا للناس ما هو قدر فاطمة، فإن النبي صلى الله عليه وآله بيَّن للناس من هي فاطمة عليها السلام، وكذلك صنع الأئمة الأطهار عليهم السلام، فإن الأحاديث المتواترة التي صدرت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وعن أئمة أهل البيت عليهم السلام كافية في إيضاح كثير من مقامات السيدة فاطمة عليها السلام وكاشفة عن جملة من فضائلها الكثيرة.

إن رسول الله صلى الله عليه وآله أخبر الناس بأن السيدة فاطمة عليها السلام هي سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين, كما روى ذلك المسلمون في كتبهم مع اختلاف مذاهبهم, ومن ضمنهم البخاري الذي روى في صحيحه 3/1117 عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وآله أخبر فاطمة عليها السلام بأنها سيدة نساء أهل الجنة, أو سيدة نساء المؤمنين.

ولا شك في أن فاطمة عليها السلام ما بلغت هذه المرتبة العالية التي لم يبلغها غيرها من نساء الأمة إلا لأنها كانت تتميز بفضائل كثيرة عظيمة ومناقب عالية شريفة لم تحزها غيرها من النساء على مر العصور.

ومن جملة تلك المزايا أنها عليها السلام معصومة من الزلل, والخطأ, والنسيان, والسهو, والغفلة, والجهل, وأنها حجة من حجج الله تعالى, وأن الله يرضى لرضاها ويغضب لغضبها, وأن من آذها فقد آذى الله ورسوله, وغير ذلك مما عُلم ثبوته لها من الفضائل المهمة التي دلت عليها أحاديث كثيرة متواترة أو مشهورة.

إدراك ليلة القدر بمعرفة قدر فاطمة عليها السلام:

قوله عليه السلام: «من عرف قدر فاطمة فقد أدرك ليلة القدر», يدل على أن إدراك ليلة القدر يحصل بمعرفة قدر فاطمة ، وهذه الفقرة لها أحد معنيين:

الأول: أن من عرف قدر فاطمة آتاه الله سبحانه وتعالى من الأجر والثواب ما يعطيه لمن أدرك ليلة القدر، فقامها وعبد الله فيها، فحصل على ثواب العبادة الصحيحة في تلك الليلة المباركة التي نص الكتاب العزيز على أن العبادة فيها خير من ألف شهر من العبادة في غيرها.

الثاني: أن من آثار معرفة فاطمة عليها السلام ومن بركاتها أدراك ليلة القدر, فإن كل عبد عرف قدرها عليها السلام فإن الله عز وجل يوفقه لكي يدرك ليلة القدر طيلة حياته.

لم سُمِّيت فاطمة عليها السلام بهذا الاسم؟

دلَّت بعض الروايات على أن سبب تسميتها عليها السلام بفاطمة هو أن الله عزَّ وجل فطمها وفطم ذريتها عن النار, فلا تمسها نار الدنيا ولا نار الآخرة، لا هي عليها السلام ولا أي واحد من أبنائها، وقد ورد أن ذلك خاص بالحسن والحسين وزينب وأم كلثوم، دون من تولد منهم عليهم السلام.

وفي روايات أخر أن سبب تسميتها عليها السلام بذلك هو أن الله فطمها وفطم ذريتها ومحبيها عن النار, فإن كل من أحب فاطمة فإن الله سبحانه وتعالى أعطاه صك نجاة من النار يوم القيامة.

وأما هذا الحديث فإنه يدل على أن سبب تسميتها بفاطمة شيء آخر.

قال عليه السلام: «وإنما سميت فاطمة لأن الخلق فطموا عن معرفتها», أي أن الناس لا يتمكنون من إدراك حقيقتها, فمهما عرف الخلق شيئاً عن السيدة فاطمة عليها السلام فإنهم لا يعرفونها تمام المعرفة، وما يعرفونه عنها إنما هو شيء يسير من فضائلها ونزر قليل من مناقبها.

وصدر هذا الحديث فيه دلالة على أن معرفة قدر فاطمة عليها السلام ليس بمتعسر على الناس ولا بمتعذر, إلا أن ذيل الحديث يدل على أن الله تعالى منع الناس عن معرفتها وإدراك تمام مقامها.

فكيف نوفق بين صدر الحديث وذيله؟

صدر الحديث يدل على إمكان معرفة قدرها من أنها سيّدة نساء العالمين, وأنها معصومة, بل حجة من حجج الله تعالى, وأن الله يرضى لرضاها, ويغضب لغضبها، وغير ذلك.

وأما ذيل الحديث فإنه يدل على أن من أراد أن يعرف كنه فاطمة, أو مقامها الواقعي عند الله تعالى, فإنه لا يتمكن من ذلك, كما ذكر ذلك بعض العلماء وعلله بأن غير المعصوم لا يتمكن من إدراك كنه المعصوم, نظير قولنا «إن زيداً مجتهد»، فإنا وإن عرفنا هذا العنوان وهو الاجتهاد إلا أنا لا نعرف حقيقة الاجتهاد ما هي.

فمن أراد أن يعرف حقيقة المعصوم فإنه لا يتمكن من ذلك؛ لأنه لا يعرف كنه العصمة وماهيتها, ولأجل ذلك نفهم لماذا فطم الله عز وجل الخلق عن أن يعرفوا السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام حق معرفتها.

إن فاطمة الزهراء وصلت إلى أقصى درجات الكمال البشري، والأحاديث التي دلت على فضلها إنما هي كاشفة مبيِّنة لبعض مقاماتها، ولا تدل على كل ما لها من فضل، كما أن تلك الأحاديث مؤسسة لفضلها، فإن الأحاديث لا تعدو كونها كاشفة فقط، يعني أن فاطمة كانت امرأة عظيمة، فيها من مناقب عالية وفضائل عظيمة خفيت على أكثر الخلق, والنبي صلى الله عليه وآله في أحاديثه الشريفة كشف عن هذا الفضل وبيّنه للناس وأرشدهم إليه, لا أن فاطمة ما كان لها أي فضل عند صدور تلك الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله، وإنما صار لها فضل بتلك الأحاديث!!

أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وأحاديث الأئمة الأطهار عليهم السلام كانت كاشفة عما امتازت به سيدة النساء من علو الفضل وسمو المقام، ومن الطبيعي أنها سلام الله عليها إذا كانت قد وصلت إلى أقصى درجات الكمال البشري، وفاقت جميع نساء الدنيا منذ أن خلق الله الخليقة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فإن غير معصوم لا يتمكن من أن يعرف حقيقتها أو يدرك كنهها، ولا سيما أن فاطمة اتصفت بصفات لم تتصف بها أي امرأة من نساء الأمة, فإنك لا تجد في هذه الامة امرأة معصومة غير فاطمة ، رغم وجود نساء جليلات عظيمات على مر التاريخ, والنبي صلى الله عليه وآله لم يقل في حق امرأة أخرى غيرها عليها السلام: «إن الله يرضى لرضاها، ويغضب لغضبها», وهكذا الحال في باقي فضائلها العظيمة.

هل عرفنا قدر فاطمة سلام الله عليها؟

إذا اتضح ما قلناه نتساءل:

هل نحن فعلاً عرفنا قدر فاطمة عليها السلام؟

لا شك في أنا قد أطلعنا على الأحاديث التي أشرنا إليها آنفاً في فضائل سيدة النساء عليها السلام, ولكن هل نكون بذلك قد عرفنا قدر فاطمة أم لا؟

من المعلوم أن المعرفة تنقسم إلى قسمين:

1- معرفة علمية: وهي العلم بأن فاطمة سيدة نساء العالمين, والاطلاع على كثير من فضائلها الأخرى, وهذه المعرفة ربما يشترك فيها من يوالي فاطمة عليها السلام ومن لا يواليها.

2- معرفة وجدانية: وهي المعرفة التي تنفذ إلى وجدانك, وتنفذ إلى شعورك, وتعيش معك، فتشعر بما تعلم به وكأنه متجسد أمام عينك.

ولتوضيح الفرق بين المعرفة العلمية والمعرفة الوجدانية بمثال نقول: إن كل واحد منا يعلم أن الله تعالى مطلع على أفعاله ومراقب لسلوكه، ولكن من منا من يشعر بذلك شعوراً يمنعه من اقتراف المعاصي وارتكاب الذنوب، ويشعر فعلاً أنه سبحانه معه أينما كان يراقبه، ويحصي عليه ذنوبه وآثامه؟!

ربما يكون أمثال هؤلاء قليلين جدًّا.

وهكذا الحال بالنسبة إلى معرفتنا بفضائل سيدة نساء العالمين ، فنحن وإن علمنا بكثير من فضائلها، إلا أن ذلك ربما لم ينفذ إلى وجداننا ويعيش معنا، فلا نتصرف تجاهها بما يتناسب مع معرفتنا بما لها من فضل.

ربما تُعجب الفتاة بأمها, أو بأختها, أو بعمتها, أو بخالتها, أو بأي امرأة أخرى من النساء المعاصرات أو غيرهن، فتجعلها لها قدوة، وتتأسى بها، فتصنع كما تصنع، وتحاول أن تحاكيها في كل شيء، حتى في لباسها وكلامها وأفعالها الأخرى وغير ذلك.

لكن هل نساؤنا اتخذن فاطمة لهن قدوة؟

هل سعت واحدة من نسائنا أو أخواتنا وبناتنا لأن تتأسى بفاطمة في لباسها، أو في خلق من أخلاقها, أو في جانب من جوانب حياتها؟

كثير من الناس يتعاملون مع أهل البيت من منطلق المصلحة والمنفعة, فلا يلجؤون إليهم عليهم السلام ولا يتقربون منهم إلا إذا وقعت لهم مشكلة أو مصيبة, فيتوسلون بأهل البيت عليهم السلام لتخليصهم من هذه الشدة فقط.

لقد صار متعارفاً عند النساء في مجتمعنا أن يعملوا سُفَراً للتوسل بأهل البيت عليهم السلام في قضاء حاجاتهن, وهذه السُّفَر أمر جيد في حد ذاته؛ لأنه يوثق الارتباط بين المؤمنات وبين أهل البيت عليهم السلام، لكن إذا كنا نريد أن نوثق الارتباط بأهل البيت أكثر وأكثر، فإن علينا بالدرجة الأساس أن نتقرب إليهم بالتأسي بهم في أخلاقهم وسلوكهم، وفي الأخذ بما جاؤوا به من أحكام وآداب حتى نكون لهم شيعة بحق.

من أرادت أن تتوسل بسيدة النساء أو بأم البنين عليهما السلام فمن الأفضل - بدلاً من أن تقدم طعاماً - أن تعاهدهما بأن تتأسى بهما في شيء من جوانب حياتهما وفي الأخذ بطريقتهما في تعاملها مع زوجها, أو أبنائها, أو في خدمتها للنساء المؤمنات, وتفانيها في الإسلام وفي غير ذلك من جوانب حياة هاتين المرأتين الجليلتين ، فإن ذلك أدعى لإنجاح التوسل بهما أو بغيرهما من أئمة أهل البيت عليهم السلام، وبهذا تكون تلك السُّفَر أرقى وأنفع.